أنت هنا
نظرة عامة
كتاب " المساءلة التأديبية للقضاة " تأليف أ . شامي يسين .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
القضاء من الأمور المقدسة عند كل الأمم مهما بلغت درجتها من الرقي والحضارة ، ذلك أن أهم دعائم السعادة التي يسعى إليها البشر أن يطمئن الناس علي حقوقهم ، وأن يستقر العدل بينهم ، فالنفس البشرية فطرت علي النزعة العدوانية ، وحب الغلبة والاعتداء علي حقوق الغير، وكان لابد من وضع حد لهذه النزوات من أجل توفير الطمأنينة والأمن لجميع أفراد المجتمع، وهي الغاية المنشودة من طرف الأمم علي مر العصور ، فلإسلام جعل القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالي ، وهو أشرف العبادات ، ولأجله أثبت الله سبحانه وتعالي "لآدم" اسم الخلافة ؛ فقال عز وجل : ﴿إنيٍِ جَاعٍلُ فيِ الأَرضِ خَليفِةً﴾[1] وأثبت ذلك " لداود"، فقال تعالى: ﴿يَدَاوُد إٍنَّا جَعَلناَك خَليِفَةً فيِ الأَرْضِ فاَحكًم بَين النَاس بِالحَق وَلاَ تتَبعِ الهَوى فيََُضلَّكَ عَن سَبيلٍ اللهِ إِنَّ الذِين يُضلُّونَ عَن سَبيلِ اللهِ لَـهُم عَذابُ شَديد بمَا نسَوُا يَوَم الِحساِب﴾[2] .
هذا ويعتبر القاضي الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها القضاء ، فمهمته شريفة عند جميع الأمم لكونها مناط الحق والعدالة، فالقاضي يتولى الحكم في قضايا الدماء والأموال والأعراض و ما يتصل بذلك من ضروب المنافع ورفع المضار ، وعليه يكون مدار الأحكام .
وصدق العلامة ابن فرحون[3] حين قال في القاضي:
"وبه الدماء تعصم وتسفح ، والفروج تحرم وتنكح ، و الأموال يثبت ملكها ويسلب ، والمعاملات يعلم ما يجوز منها ويحرم ويكره ويندب" .
ولما كانت العصمة من خصائص الرسل والأنبياء ، والقاضي بشر يجري عليه ما يجري علي سائر البشر ؛ فهو يصيب ويخطئ ، ويرضى ويغضب، ويجوع ويقلق ، ويعدل ويجور ، ولهذا كان من طبيعته أن يحصل منه مخالفة الصواب ومجانبة العدل، مما يترتب عليه إضرار بالآخرين ، فالقاضي ورغم المواصفات التي ينبغي أن يتسم بها إلا أنه قد يرتكب داخل وظيفته أو خارجها أخطاءً تظهر حين يخالف في عمله واجباته الايجابية أو السلبية المفروضة عليه صراحة، وكذلك عندما يخرج عن مقتضيات العمل، ولو لم تتضمنها نصوص مكتوبة.
فمن جهة هناك واجبات صريحة يتعين على القاضي مراعاتها ، فان خرج عنها كان مرتكبا لأخطاء تأديبية تلتزم الجزاء المناسب ، ونجد أن هذه الواجبات ترد في قوانين متفرقة ، مثال ذلك القانون الأساسي للقضاة - أو كما يسمي في بعض التشريعات المقارنة بقانون السلطة القضائية - ،ومدونة أخلاقيات مهنة القضاء ، وبعض التنظيمات واللوائح التي بموجبها يتعين علي القاضي إتباع شكل من الأشكال في أداءه لمهامه القضائية ، و المفروض عليه العلم بكل ذلك وحتى فهمه واستيعابه.
ومن ناحية أخري هناك بعض الواجبات التي لا تعلن عنها القوانين و القرارات، وهي مقتضيات يجب عليه مراعاتها باعتبارها لصيقة بمهنة القضاء ؛ وتتعلق بشرفه وسمعته ومظهره الخارجي، لذا كان على النظم القانونية المختلفة أن تضع نظاما لحساب القاضي المخالف لواجبات وظيفته ومسألته تأديبيا .
وعملية تأديب القاضي عن خطأه التأديبي ليست عملية انتقامية ولا زجرية تهدف إلى الاقتصاص منه؛ بل هي عملية قانونية تهدف إلى إصلاحه، وتحذير باقي القضاة حفاظا علي مصلحة مرفق القضاء، ذلك أن هذا النظام التأديبي تطور من نظام زجري صرف مؤسس على مسؤولية القاضي، إلى سياسة وقائية تتمحور فكرتها حول التوعية بالمسؤولية عن طريق التكوين المتواصل للقضاة ، وتقرير تشريعات خاصة بهذا الخصوص كمدونات أخلاقيات مهنة القضاة الوطنية وتكريس المبادئ الدولية التي تعني بواجبات القضاة ومسؤولياتهم .
هذا ويشار إلى أن مساءلة القاضي تأديبيا لها بعض الخصوصية التي تجعل من كيفية تأديبه تختلف ـ و لو بشكل بسيط ـ عن كيفية تأديب باقي أعوان الدولة وموظفيها نظرا لسمو منصبه وحساسية عمله و إمكانية تأثير المساءلة على عدله وحياده.
وعليه اتفق المشرعون باختلاف مشاربهم على وضع نظام قانوني يكون جدارا عازلا يراقب ويحمي القاضي في آن واحد ، يحميه من التنكيل به ، وجعل المحاسبة والمساءلة طريقة للتأثير على وظيفته القضائية ، و العبث باستقلاله واستقلال السلطة التي ينتمي لها ، وحياده المفترض فيه، ويكون الرقيب عليه، فيمنعه من ارتكاب أي أخطاء تؤثر على شرف مهنة القضاء ، أو تمس المتقاضين بأي شكل من الأشكال .
بالإضافة إلى أن تأديب القاضي هو إجراء منصوص عليه دستوريا ، وذلك طبقا للمادة 149من دستور 1996 " القاضي مسؤول أمام المجلس الأعلى للقضاء عن كيفية قيامه بمهمته حسب الأشكال المنصوص عليها في القانون " ولعل دسترة عملية تأديب القاضي هي أكبر دليل على خصوصيتها ، فلا نعرف أن الدستور الجزائري ينص على مسؤولية الموظف أو أي شخص آخر في طياته باستثناء رئيس الجمهورية، والوزير الأول- جنائيا - في المادة 158[4] .
ولعل الأمر الأخر الذي يجعل من إجراءات مساءلة القاضي أمرا خاصا، هو تبعيته لسلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية .
فالحكومات ثبت سعيها عبر الأزمنة إلى إخضاع السلطة القضائية لتكون المعبر عن سياستها وداعما لأرائها وتوجهاتها ؛ ولكن مع بزوغ الثورة الفرنسية سنة 1789 ، واتجاه رجالها إلى تطبيق أقوال وأفكار الفقهاء الكبار- أمثال أفلاطون ، وجون جاك روسو، و مونتيسكيو[5] - فيما يخص استقلال السلطة القضائية ،حينها تم للقضاة ما كانوا يصبون إليه عبر العصور ، فأقرت القوانين الحديثة مبدأ الفصل بين السلطات ، والذي بدوره أقر حتمية استقلال القضاء ، فكان اللبنة الأساسية في إنشاء ما تسمي ـ في وقتنا الحاضر ـ بالمجالس العليا للقضاء ؛ وهي المسؤول الأول والأخير عن شؤون القضاة ، من التوظيف إلى العزل ، وإسناد قيادتها إلى قضاة قدماء عتاق لهم من الخبرة ما يمكنهم من الذود عن زملائهم ،وقضاياهم، والتصدي لكل ما من شأنه النيل من استقلالهم المكرس دستوريا ودوليا.
هذا ويعتبر موضوع إجراءات المساءلة التأديبية للقضاة من المواضيع المهمة و التي لم تحز اهتمام التشريع والفقه بالقدر اللازم، ذلك أن الفقه الجزائري والمقارن اهتم بالعمل القضائي وجعل منه محورا أساسيا للدراسة والبحث ، سواء ما تعلق منه بالخصومة كيف تبدأ وكيف تنتهي وما قد يعترضها ويشوبها دون عناية بمسؤولية من يقومون بأدائها والإشراف عليها من قضاة حكم ونيابة، وخاصة مسؤوليتهم التأديبية ، إذ لم يُعْنَ الفقهُ القانوني بدراسة أي من القواعد الإجرائية والموضوعية المتعلقة بالمسؤولية التأديبية للقضاة وتحديد نطاق الواجبات التي تفرض عليهم والأخطاء الصادرة منهم ، وعليه فقد وجدت أثناء البحث عدة إشكالات قانونية في هذا الصدد ـ سنتطرق لها بالتفصيل ـ .
كما تجدر الإشارة إلى أن موضوع مساءلة القضاة تأديبيا يأخذ منحا وتصورا سلبيا بشكل كبير ؛ بمعنى : أن القاضي المخطئ يساءل عند إخلاله بواجباته .
وعليه نذَكِر أن هذه الدراسة جاءت لمناقشة الموضوع من حدين متقابلين ، الحد الأول الوجه السلبي في تأديب القضاة بمعنى : ذكر واجبات القضاة ونتائج الإخلال بها والمراحل والإجراءات التي تتبع في سبيل ذلك .
ومن جهة أخرى حاولنا ولو بشكل ايجابي بسيط تِبيان دور المساءلة في الضغط على حياد القاضي الشريف ، وذلك بالتأثير على أحكامه وقراراته القضائية نظرا لوجود المساءلة بين أيدي سلطتين التنفيذية والقضائية ، فوزير العدل هو محرك الدعوى التأديبية و المفتش العام لوزارة العدل و المحقق فيها ، و بالتالي نتيجة القرار التأديبي هي بيد السلطة التنفيذية غالبا ،و التي تستطيع إيصال معلومات مغلوطة عن قاضي إلى المجلس الأعلى للقضاء ، و الذي بدوره سيحكم وفقا لتلك المعلومات لا محال .
والجدير بالذكر أن البحوث القانونية المتاحة قد تطرقت بشكل عام إلى دراسة المسؤولية التأديبية للموظف العام ومختلف أعوان الدولة العاديين منهم والسامون ؛ إلا أن هذه الدراسات خلت من الإشارة إلى القضاة ، فمنها ما يتناسى هذه الفئة ، ومنها ما يخرجهم عن نطاق الدراسة نظرا لإدراكه أن القضاة لهم نظام تأديبي خاص وهيئة تأديبية دستورية ، ومنها ما يخلط بين الموظف العام والقاضي دون ذكر أي اعتبار ، مع أن الدارس للقوانين والتشريعات يلاحظ جليا الاختلاف البائن بين القاضي والموظف في جميع النواحي ، بداية بالواجبات ، ومرورا بالهيئة التأديبية ، و انتهاء بجدلية الطعن في القرارات التأديبية لكلا منهما .
وعلى الرغم من قلة الأبحاث وشح المصادر التي تتطرق لهذا الموضوع في المكتبات الوطنية إلا أننا حاولنا معالجة الموضوع من خلال تحليل مواد التشريعات الوطنية التي تُعنى بالقضاة و تنظم المسؤولية التأديبية ، مع مقارنتها بما توصلنا إليه من مواضيع مقارنة تتعلق بمسؤولية القاضي التأديبية وخاصة التشريعات المصرية والفرنسية في محاولة لاستنباط التماثل والاختلاف بين إجراءات المساءلة التأديبية للقاضي الوطني مقارنة بالقضاة في التشريعات المذكورة آنفا .
مشاركات المستخدمين