صخب ونساء وكاتب مغمور ومأدبة الأخطاء الكبرى

الكتّاب الذين كانوا جنوداً في الجبهات المشتعلة ذات يوم هم ظاهرة عراقية بامتياز أنتجت عشرات الشعراء والقصاصين ممن يشكلون العمود الفقري لجيل الثمانينيات ثم جيل التسعينيات من بعده من أمثال عدنان الصائغ وعبد الستار البيضاني وحميد قاسم ووارد بدر السالم وفيصل عبد الحسن وحميد المختار وعبد الرزاق الربيعي ومنذر عبد الحر وآخرين. وقد صورت أعمالهم شعرا وقصة ورواية حقبة ساخنة من تاريخ العراق الذي لا زالت الحقب المدمرة تترى عليه كما الحمم.
علي بدر ،على ما يبدو، واحد من أولئك الكتّاب الذين خرجوا من نيران المعارك إلى ظلمات الحصار ليحوّل مرارة الحروب وهزائمها إلى مفارقات مشوبة بالسخرية والتأمل. إن ثيمة كاتب غادر الجندية لينقل لنا مشاهداته المستمرة وبأسلوب الـ(رواية داخل رواية) هي الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها رواية علي بدر صخب ونساء وكاتب مغمور، وبينما هذا الكاتب بطل الرواية يشاهد ويتأمل هذا الوجود، يحاول من خلال مشروعه للكتابة العثور على ذاته الخالصة التي تراكمت عليها الشوائب فبدت مستعدة للكثير من الحذف والاضافة. وهذه الذات التي غادرت لتوها جبهات القتال تبدو للوهلة الأولى غير مهزومة ولا منكسرة، وإنما تنظر إلى الحياة بروح متفتحة جميلة يُهيَّئ لها المكان (ستوديو في منطقة الكرادة ببغداد) أن تراقب العالم الذي يحيط بهذا المكان، فتعتبر أن مجرد النظر إلى حركة الناس في الشارع هي متعة ما بعدها متعة: حكايات شخصية نعم شخصية جداً لكنها مع ذلك تنشبك وبصورة غريبة ومثيرة وعجيبة مع تاريخ السياسة والمجتمع والأفراد والمحلات والأسواق والبوتيكات والتجار والفنادق. تلتحم بشكل نابض وحيّ مع ما نطلق عليه ببساطة: حياة .فماذا يريد الكاتب أكثر من هذا؟ ماذا يريد الكاتب أكثر مما في (شارع رخيتة)، يمكنك أن تسمع صلصلة عربة وحمحمة حصان موجودة من ألف عام، ويمكنك أن تسمع الترتيل الملغز العظيم الذي يُراق بدفقات سماوية من آذان الجامع في الوقت الذي تسمع فيه صوت أجراس الكنيسة التي تذكّر بأولئك الذين دوّخهم سراب الذهب الزائل بالخلود، يمكنك أن تعيش هذا التعدد الغريب والمذهل والخلاق في تعدد الأعراق والقوميات والأثنيات والأدبيان والطوائف، إنك تعيش في برج بابل حقيقي.
إن الكاتب يغرف من هذه الحياة دلواً إثر آخر، ثم يصبه تفاصيلَ منمنمة تنهمر علينا مثل المطر، ثم يلم هذه التفاصيل مرة أخرى لينسج لنا حكاية بل عدة حكايات يتداخل فيها الواقع مع الخيال بطريقة مقنعة لولاها لبرزت إشكالية الراوي العليم والتي كانت ستعرقل جريان النص وصدقيته باعتبار أن الكاتب يروي روايته بضمير المتكلم (الشخص الأول). فهو مثلاً يسرد قصة فتاة الليل (سعاد) كاملةً أثناء النظر إلى حديقة بيتها من خلال واجهة مطعم يأكل فيه بطل الرواية ، فيحدث أثناء نظره من خلال الواجهة هذا التداخل الذي أشرنا إليه بين الواقع والخيال، بين ما حدث أمام البطل فعلا وبين ما يتذكره وما يتخيّله.
ينتقل الكاتب وفقاً لطريقته بتقطيع الرواية إلى مشاهد ولقطات (كولاج) من مقطع إلى آخر بمرونة لا تزعج القارئ أو تنغّص عليه انسجامه مع تلك المشاهد السينمائية، فيقفز مباشرةً من قصة (سعاد) الراقصة إلى قصة (وليد) الشاعر، ومن أجواء الكرادة إلى تلك الأجواء المحيطة بأكاديمية الفنون الجميلة. وهنا أيضاً يختلط الواقع مع الخيال، فتجد الأسماء الحقيقية لرياض الريس وغسان تويني وجبران تويني وعبد الكريم قاسم وماجد محمد أمين ويوسف العاني وغيرهم. وقد ظللها غبشٌ من الصهد فتتموج وتتراقص وتترنح أحياناً لتجعلنا نندمج معها ونتأملها نحن الذي عشنا عصور بغداد جميعها، أو تصيبنا بالحزن على خسرانها وفقدانها إلى الأبد، أو تضحكنا بطرافتها، بل أن الكاتب يشاركنا، وهو يكتب روايته داخل الرواية، حيرته في اختيار الحبكات التي ينوي كتابتها. فهل يروي سيرة (رحيم ابن العمية) أم (بولس التلكيفي) أم الأرمينيات اللواتي يشبهن شمعدانات المعابد، ام يعود مرة أخرى ليكتب عن الكرادة ؟؟ أن اختياره الكرادة ذات التنوع السكاني الواسع، والعلامات الفارقة، مثل ساحة كهرمانة وأورزدي باك وسيد إدريس والبوليسخانة وهمبركر أبو يونان هو اختيار للحياة التي ستجعل منه الكاتب العظيم. فهو يصرخ فجأة: لماذا أسافر إلى طنجة وأمامي كل هذه المشاهد التي ستجعل مني الكاتب العظيم؟.