أنت هنا
طبيب تينبكتو حكاية مروية بأسماء وأماكن مغايرة للرواية العربية

زحف الرمال الناعمة لا يعني أن المسألة لها علاقة بالتصحر، فيجب مواجته فالرمال لا يمكن لها أن تتجاوز حدودها التي اتفقت عليها مع أبنائها، إلا إذا كانت تحاول إيصال رسالة لمن يلامسون دفئها ووحدتها، وهذا ما أرادت قوله رواية طبيب تينبكتو الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت للروائي عمر الأنصاري.
إنهم آمنون يعيشون وفق حياة بسيطة لكنها تحمل دلالات عميقة، فسكان الصحراء كتبوا وقدموا للبشرية مثلهم مثل غيرهم، بل في بعض الأحيان أسهموا في رفع سوية كل من اتصل بهم أو تعلم منهم، لكنهم الآن غرباء في المنافي غرباء بين كثبان صحرائهم.
وكأي رواية يمكن أن يقرأها المهتم والقارئ المحترف يقع في الفخ حين يتجاوز صفحاتها الأولى، وأنها حكاية مروية بأسماء وأماكن مغايرة للرواية العربية.
أمة كانت هنا، صارت في المنافي يتقاسمها الجميع وصارت الجغرافية في أبشع صورها، طبيب تينبكتو رواية واقعية تناولت مآساة شعب الصحراء (العرب والطوارق) من خلال البطل ومن خلال أبطاله العائلة الأولى وحوض الذاكرة المترامي والمقسم إلى أوجاع.
لكن السؤال الأصعب في رواية طبيب تينبكتو وحتى خارجها: كيف يمكن للمرء أن يختزل قضيته في رواية أدبية إبداعية تحكي واقعاً بلغة شعرية وسردية شفافة وموجعة، كأننا أناس لفظتهم الدنيا بعد انقضاء زمانهم ولم يستطيعوا مغادرتها لأنهم لم يجدوا باباً للخروج منها. هذا ما قالته زينب إحدى شخصيات الرواية، ومن هنا يشعر القارئ بصعوبة ما حل بأهل الصحراء من ظلم واضطهاد، وطرد واستلاب.
إنها القضية الأصعب في تاريخ الشعوب والسياسة، الطوارق في الرواية هم الأكثر وضوحاً والأكثر جدارة بالحياة والحق في دولتهم، فهم الاغنى بين أقرانهم الذين تقاسموا دولتهم وحولوهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية أو لاجئين أو منفيين.
الروائي الأنصاري اختبر نفسه في عمله الأول الرجال الزرق، ليكون منصة انطلاقه إلى عوالم الصحراء البعيدة والمثقلة بالجراح ليعود مرة اخرى بإعادة الحياة الى تلك العوالم من جديد في طبيب تينبكتو، سارداً حكاية أهل الصحراء من زواية مختلفة بحس قل نظيره.
قد لا يوجد بطل واحد في الرواية، ذلك أن شخوص طبيب تينبكتو كلهم أبطال يحملون أحلاماً وأمنيات يعيشون بسلام ليس فقط بينهم وبين بعضهم بعضاً، بل مع بيئتهم وما يشاركهم عليها من حيوانات، وهنا أستحضر علاقة الهنود الحمر بالبيئة في جو لا يمكن تخيله يتجلى عند الطوارق الذين احترموا منظومة الحياة ابتداءً من الشمس ووصولاً بتفاصيل كثيرة مازالت تمثل جوهر إنسانيتهم كالغزلان والجمال والحيوانات الأخرى التي تجد لنفسها شريكاً معهم في صحرائهم.
وأقل التفاصيل قالها الطوارق نساءً ورجالاً نصاً مذبوحاً ينزف على الرمل وصرخة أرادها طبيب تينبكتو في تتبعه لقضيته ولغز الأسماء المخبئة في صندوق سوف يعرفه القارئ تركه الرواي لكي يعطي لهذا الشعب بُعداً جديداً ومغايراً لقضية إنسان الصحراء.
إنها الرواية الطقسية بامتياز فهي مفتاح القارئ نحو معرفة ثقافة أسست الكثير من المعارف، وهي حكاية شعب ومجتمع كان ولايزال قائماً، بدليل أن هذه الرواية جاءت لتؤكد حضوره الأصيل والشرعي والقانوني ايضاً.
طبيب تينبكتو هي حكاية شاب جاء من البعيد هنا في هذا النص ليقول بيان حقه في الحياة، وعلى أرضه الاولى والتاريخية بوصفها تشكل هاجساً ملحاً لشعب مازال يتطلع الى إعادة الاعتبار والأرض له.
الموت الذي عاناه العرب والطوارق في الصحراء هو عنوان قضيته، ولكن هنا ليس الموت الطبيعي الذي نعرفه، إنه الاقصاء والموت قتلاً وكمداً بعد ان دخل الاستعمار بأشكاله معتبراً نفسه وصياً على حكماء وأمة لن يستطيع فيما بعد تجاوزها إلا أنه استطاع تحجيمها وحصرها وتشتيتها، والأهم الإساءة لشعب مسالم ومثقف له جذوره وأبجديته وطقوسه.
وكل القضايا الأساسية كانت حاضرة على طاولة طبيب تينبكتو فلسطين وبشكل لا يمكن تخيله، باعتبارها القضية التي توازي قضية ومعاناة الطوارق، فالتفجيرات النووية التي اختبرها المستعمر البشع على غير أرضه كانت حاضرة، فيما يتحدث عنها الناشطون الآن باعتبارها جريمة ضد الانسانية، أبطال طبيب تينبكتو كانوا جديرين بحضورهم وأفكارهم وأحاسيسهم ومعارفهم ونضالهم وحزنهم على أنفسهم.
إنها الرواية التي تتحدث عن معنى الخير في مواجهة الشر، والرواية التي كتبت بلحم ودم كاتبها وليس بالحبر والورق لتروي وبسرد لغوي شعري إبداع شعب مازال حاضراً وقضيته ماثلاً داخل صندوق يحتاج لمن يفتحه ليكتشف كل الأسرار عن حق الطوارق في صحرائهم الأولى والأخيرة.