أنت هنا
كتاب الوحدة تدلّل ضحاياها لدارا عبدالله: السجون أماكن للإذلال وليست منصّات بطولة

الوحدة تدلّل ضحاياها عنوان كتاب أوّل قدّمه دارا عبدالله للقراء واضعاً إيّاهم منذ البداية أمام تحدّي الفهم: كيف يُدلّل الوحيدون؟ وأي وحدة هي المقصودة؟ وحدة المنفى ام السجن ام الوحدة بالمطلق؟ النص المطبوع على الغلاف الخلفي يبعثر الاحتمالات من جديد و يشير الى وحدة من نوع آخر: البلاطة، وحدةٌ لقياس القدم في السجن، وكلّما كان لكَ بلاطات أكثر كنت أكثرَ عراقة. الأقدم هو الأكثر راحةً لأنه يملك مكاناً أوسع. الأكثر راحة هو الأكثر تعاسة، البلاطة هي وحدة لقياس الأل . الوقع الجميل للكلام على الأذن لا يسعف القارئ لإدراك القصد المباشر من العنوان.
نصوص الكتاب اكثر وضوحاً ومباشرةً من عنوانه. يضع الكاتب من خلالها القراء امام تحدٍّ جديد يناقش فيه بديهيّاتهم، فيكسر الصورة التقليديّة للمناضل البطل الشجاع الذي لا يهاب شيئاً ويعيد أنسنته بمديح للخوف. الخوف المتجذًّر بالفطرة الانسانية قبل ان يغيّبه فائض الذكوريّة ويحل مكانه تمجيد العنف، فيسأل: لم احتقارُ الخوف؟ الكتابة التمجيديّة الحماسيّة عن البطولة والتضحيات والدماء هي شحنٌ للغة بمضامين رمزيّة ذكوريّة عنفيّة، النص المتخّم بالبطولة. رئة منتفخة". يرى أن السجون أماكن إذلال، وليست منصّات بطولة"، ثم يختم: "نحن بحاجة الى كتابات مليئة بالهزيمة والتلاشي. الكاتب اقرب في كتاباته هذه الى الماغوط منه الى أنصار يا ظلام السجن خيّم إنّنا نهوى الظلام. لا يغلّف الواقع المزري للمضطهدين بكلام الإطراء والتملّق ويعيد الى السجين صفته المجرّدة الأولى ممثّلةً بالقيمة الانسانيّة المطلقة، نازعاً عنه الصفات الثانويّة من تمجيد وتقديس.
يصوغ موقفه السياسي بطريقة أدبيّة تضفي جماليّةً على النص، إلا انها تضفي عليه شيئاً من الالتباس والغموض وتفتح باب الاحتمالات أمام قارئه. لا يغفل الكاتب هذه النقطة فيردّ على لائميه بسبب الفائض الشعري في موقفه السياسيّ مبرراً ذلك بأنّ الاتّكاء على صرامة الأقصى في النظريّات الايديولوجيّة ينتج نصّاً ينضح بالدم، ويقضي على بذور التعاطف الانساني.
يجد بعض النّقاد أن ما جاء في الكتاب لا يصلح لأن يكون أكثر من خربشات على حائط الـفايسبوك. يعيد هؤلاء الى أذهاننا الضحكة السمجة لجمال حسني مبارك لدى سخريّته من أحد سائليه عن مدى استعداده لمحاورة شباب الـفايسبوك. لا يحتمل بعض ديناصورات المعارضة والثقافة فكرة ان يخطف شاب يافع الأضواء منهم. تضعنا هذه الصورة امام إحدى أكبر مشكلات الساسة والمثقفين في بلادنا، حيث يُفرض على السياسي او المثقّف عمر محدّد وأسلوب محدّد وخطاب محدّد. كل من يخرج على هذه الحدود يجب الغاؤه او تحجيمه في أفضل الأحوال.
إذا أردنا تنظيم الأفكار الغزيرة المبعثرة في ثنايا الكتاب نجد أنفسنا امام ثلاثة محاور؛ محور توثيقي يتناول الفترة التي أمضاها دارا في المعتقل ببعد أدبي وإنساني عميق، ثمّ محور سياسيّ عن الثورة وانعكاساتها على الانسان السوري، وأخيراً محور تأمّلي أقرب الى الشعر المنثور يدفع عقل القارئ الى إثارة الأسئلة ويفتح له باب الخيال اللامتناهي. تتراءى هذه المحاور متباعدة الى حد ما، إلاّ أنّها تلتقي عند نقطة قد تكون تلخيصاً مكثّفاً لما يرنو اليه كاتبنا في عمله وهو كسر المسلّمات في مواضيعٍ شتّى.
كثيراً ما يُظهر الكاتب استغرابه أمام مجالسيه في ألمانيا من الكلام الطائفي الذي سمعه من معارضين قاطنين فيها متسائلاً: كيف يمكن لإنسان يعيش في كنف الحداثة أن يتفوه بمثل هذا الكلام؟ يقول: شهوة السلطة في سحنة بعض المعارضين مرعبة أكثر من الإجرام الغامض في ملامح الديكتاتور نفسه . إدانة طائفة في ظل ثورة، أبشع من إدانة ثورة في ظلّ نظام.
تتركز القيمة الحقيقية للكتاب في شقّه التوثيقي عن فترة الاعتقال في سجون النظام السوري. لا نبالغ اذ نقول إنّ توثيق الكاتب لما عايشه خلال اعتقاله جزء أساسي من أرشيف الاعتقال السياسي في سوريا الذي يبقى شحيحاً قياساً الى عدد المعتقلين السياسيين. يكشف الكاتب عن عالم جديد قديم يوازي العالم خارج السجون في سوريا، عالم تجتمع فيه المشاعر اليومية المعيشة من حب وفرح وحزن ونزق وكره، تماماً كما هي الحال في العالم الخارجي لكن في ظرفٍ مختلف. يخبرنا مثلاً عن معتقلين سُعِدوا لقضاء زميلٍ لهم نحبه، بعدما سبّبت رائحة جرحه المتعفّن حالة صداع عامة في المهجع. يؤرخ الكاتب ما شاهده في المعتقل بكتابة وصفيّة جميلة ورشيقة، فنكاد نخاطبه بجرعة من الأنانيّة: ليتهم اعتقلوك لفترةٍ أطول يا دارا!.