أنت هنا
ذكرى شخص تظنه أنت
الموضوع:
تاريخ النشر:
isbn:
نظرة عامة
كتاب " ذكرى شخص تظنه أنت " ،تأليف : علي العمري ، والذي صدر عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
منتصفُ الأربعين ذروةٌ أتسلَّقُها بلا نشوةٍ، أصِلُ مُـنْـهَـكاً، وأنتبه الآنَ كم طريقتي ضيقةٌ في البقاء! لمْ أفهم الشَّساعةَ إلا بسلوكِ مَـحبوسٍ، ولأنني مولودٌ في لحظةِ حربٍ، اعتبرتُ حياتي كلَّها بمثابةِ معركة.
والآنَ في منتصفِ الأربعين لم أعد أعرف لِمَ أنا مستعجلٌ، ولا عما أفتشُ، أتغذَّى من حريقِ اللحظاتِ، وحواسِّي تشتغلُ بسلاسةِ مِـنْـشـارٍ في اللحم.
الآنَ أشعرُ بما لا يُلْـمَـسُ في الوقتِ كلما صار كمَّـاشَـةً، أدأبُ برائحةِ إبطٍ تليقُ بكادحٍ، لا أدري لماذا ألهثُ، ومع أنني مستعجلٌ، أشتكي دائماً من هِـمَّةٍ فاترةٍ كما لو كنتُ عائداً للتوِّ من مقبرة. أسكن ملجأً بنافذةٍ واحدةٍ، النافذةُ التي كانت حتماً خطأَ مهندسٍ في الجدار، أقاوم الكآبةَ بالركض، معتقداً أن اليأس بالذاتِ محتاجٌ للرشاقة، وكهَـاربٍ تربَّى طويلاً في معامل العبادةِ، أعجزُ أن أكون ولو حجراً في حَـلْـقِ الهاويةِ، ولأن طريقتي في البقاءِ ضيقةٌ، أتقشَّـفُ بأعصابِ ناسكٍ مليئةٍ بالمساميرِ، وكأيِّ مغبونٍ أستعملُ الذهنَ بتكنيك جزارٍ في مُـغازلةِ الذبيحة.
ولطالما تمنَّيتُ أن أصبح في مِـثْـلِ وداعةِ تمثالٍ من الخشبِ، لكن طريقي إلى الصمتِ مَـسدُودٌ، أتكلمُ مع نفسي كثيراً، أستطعمُ رخاوةَ الكلماتِ في الهذيانِ، أكثـرُ من مُـفْـردةٍ جعلتُها تلفُّ على نفسِها، لأُعلِّمها الدَّوخةَ وكيف تتذوقُ سُـخُونةَ القيءِ، حتى بُصاقي أحقنه في مفرداتٍ ليتكثَّـفَ ومع الوقت يصبحُ بلغماً، أثرثرُ معزولاً معتبراً أن كلَّ دفاع عن النفسِ يبدأ من جِراحة الكلمات.
قلقي يشيخُ ولم أجد له مِهْـنَـةً، ففي ذروةِ الأربعين أتأكدُ كم أنا مطرودٌ، فمن يرعى الغنمَ ويطارد المِعْـزى في صباهُ، يحيا بقيةَ عمره بهاجسِ البحثِ عن كهف.
أستعجلُ ومن يراني أمشي يظنني أرقصُ، صرتُ مثيراً للشبهاتِ، ولو حاولت مرةً أن أستريحَ في شارع سانداً رأسي إلي جدارٍ، فسأسمعُ بغتةً الصوتَ شاتماً: (انقلع من هنا يا بن الكلب) أفِـزُّ مهرولاً وقد تذكرت الكماشةَ، مشوَّشاً لا أعرف شرقَ اللعنةِ من غربها.
مشاركات المستخدمين