أنت هنا

قراءة كتاب هكذا أتشبه بالشجر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هكذا أتشبه بالشجر

هكذا أتشبه بالشجر

كتاب "هكذا أتشبه بالحجر" للكاتب الجولاني السوري نضال الشوفي؛ يضم قصصُا يستوحيها الكاتب والقاص ما أِشبه بالمراحل ما قبل وبعد، فيقول في مقدمة قصته الأولى التي حملت عنوان الكتاب: "لا أعرف شيئا عن «ماكس أوب»، حيا كان أو ميتا، كاتبا أو شاعرا أو شيئا غير ذلك، كهل

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
الكتابة الأيقونية
 
د. عبد العزيز غوردو
 
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر...
 
(توقيع: تميم بن مقبل)
 
سؤال أول: أهي الوثنية ما دفع شاعرا (من زمن حياة الإنسان المنطلق في البرية) إلى طلب التماهي مع الحجر، من خلال اشتهاء التشبه به حد الاندغام: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر!؟
 
صدر هذا البيت استهلال فلسفي عميق يجد امتداده / جوابه المقنع في عَجُزه: «تنبو الحوادث عنه وهو ملموم»؛ قبل أن يتوارى قصيا في الزمن حتى لا يكاد يبين.. ثم فجأة يرتد رجع الصدى، شجيا كشبابة الرعاة، كأنه يأتي من عالم آخر: «هكذا أتشبه بالشجر»!
 
عند هذا العنوان يمتشق سؤال ثان / سؤالنا الأول: ما الذي يدعو قاصا (من زمن موت الإنسان والبرية)، إلى التشبه بالشجر؟
 
وكما وجد صدر البيت الأول جوابه في عجزه وجد عنواننا الثاني جوابه في متن الأضمومة، التي احتضنته، وأولها القصة التي حملت عنوانها، أو حملا (القصة / الأضمومة) عنوان بعضهما... وهو مناص مغر، حد الاستفزاز، بالارتماء بين دفتي الأضمومة والغوص نحو أعمق نقطة فيها...
 
الأضمومة هنا عيادة سردية.. داخلها يصر نضال الشوفي على التلاعب بنا عن قصد، من خلال صور لا تتوقف عن التقاط التفاصيل، فلا يجعلنا نكتفي بالتأمل على الحواف بل يسحبنا نحو عوالمه الممتلئة، لنتواطأ في الفعل التبئيري، على غواية الكتابة / القراءة، نحن الكسالى الذين عركتنا العطالة وأحجمتنا عن فعل التأمل: كيف نغدو منشغلين بهذا الفن بعد القراءة الأولى والثانية.. والعاشرة؟
 
عند هذا الحد يصبح هناك التزام أورثوذكسي بين البورتريه الذي ينكتب، مرة أخرى بعد القراءة، والقارئ الذي لم يكتب شيئا في الأصل، ومع ذلك يشعر بأنه متورط في هذا الفعل الكتابي: كيف أجاد نضال الشوفي تدبيج ذلك في منجزه السردي؟
 
منذ البداية إذن، منذ القصة الأولى، أو ربما مما قبلها / من عنوان الأضمومة، كما أعلنا عن ذلك قبلُ.. ثم في «الغمر» كما في «شواطئ الرماد» كما في «المنعطف».. كما في أخواتها الأخريات... يصر هذا المنجز «الشوفي» على أن يكتب وينكتب، يشكل ويتشكل، يلغز ويتلغز... من خلال مجموع العلائق التي تشابكت فيه، واشتبكت مع القارئ اشتباكا لذيذا آسرا؛ وحيث يبدع التشكيل بالحروف في رسم مشاهد يومية عنيدة عادية، وأخرى سريالية تهوي بنا إلى الهاوية السحيقة المتاخمة للعقل والجنون، نحن لهوة أحجار الطواحين تسحقنا وسط ما يستغرقنا يوميا من غير اشتهاء: الحب والرحيل؛ شقاء العامل البسيط وتأمل المفكّر المبدع؛ حياة الريف الهادئة وصخب المدينة الضّاجة؛ ضيق الزوايا وانغلاقها وانفتاح العالم على أفقه الممتد؛ حياد المسالم السلبي وشغب المناضل المشاكس؛ لذة الحياة ومتعتها وعذابها ودموعها… حيث نستنشق المتعة والألم في آن واحد، ليس على طريقة القديسين كما في الأيقونات القديمة، بل على طريقتنا نحن البشر العاديين عند نعي الحقائق الغائبة؛ وبأسلوب لا ينفك يدهشنا كل مرة ولا غرو، فالبعد «النضالي» حاضر هنا بقوة؛ وقد جاء ليبقى ويتجذر في كل من يلمسه؛ وليعلم الجميع، منذ البداية، إن كانت هناك بداية أصلا، أن: «الإنسان غلطة... والعالم خلق للأشجار»؟!
 
لا يذهب نضال الشوفي حتى في المواضيع الكبرى التي يكتب عنها (الموت؛ الحياة؛ الوجود؛ الألم...) حد «الأسطرة»، بل يحاول فقط أن يكشف عنها بعض مظاهر الموضوع الذي تمثله (على حد رأي أمبرطو إيكو)؛ أي بما هي مواضيع قابلة لأن نتأمل، ونتفرس، فيها مباشرة: في شموخها وصلفها وعبثيتها وتعاليها... لكن بعد أنسنتها؛ ولئن كان ريجيس دوبري قد كتب يوما يقول: «شيئان لا نستطيع التحديق فيهما طويلا: الشمس والموت.» فإننا عبر مواجهتها، من خلال هذا النوع من الكتابة أي ما بعد الأنسنة، نستطيع أن نتأملها عبر الموشور الذي تنعكس فيه، والذي تمجد نفسها من خلاله؛ فههنا اللغة لا تحتفي فقط بالموضوع الذي تكتب عنه، بل هي تحتفي بنفسها أيضا.
 
من وسط خرائب العالم والإنسان إذن جاء هذا ال «نضال» ليعلمنا كيف وعندما تضيق بنا الدنيا، وتحاصرنا الأسئلة، ما علينا إلا أن ننفث نفسا طويلا – حتى لو ارتخت الشفاه - ثم نغمز في أسرارنا: لهذا نحب صحبة الشجر...
 
يعلمنا «كيف نغني للأشجار عن الأشجار»؛ أما الإنسان فهو «غلطة» والعالم لم يخلق له... لأنه لا يستحقه...
 
وإذ ننام نجترح، نحن المبتلين، غواية الحنين إلى الأيام الخوالي، إلى الوطن الكسيح، إلى قبور الأجداد التي تصر على الصمود ولو من دون شاهدة... وإلى الأشجار... لا خلاص لنا إذن إلا بالسفر إلى أرض محايدة تخضّر فيها الأصابع، وتبرعم أشعارا على الورق، وإذ تزهر فإنها لن تزهر أفضل من شتلات نشتهي أن نتشبه بها، فيصيح كل واحد منا، بصيغة الجمع أو المفرد: هكذا أ /ن / تشبه بالشجر...
 
عنوان مغر بالقراءة، وأضمومة لن يندم من قرأها على أنه قد فعل، وأكيد سيكون خاسرا كل من فاته شيء منها، حتى لو حدث ذلك دون قصد منه...

الصفحات