بين اللاشعور وأعماق الوعيّ الوجودي تحاول الكاتبة العمانية زوينة الكلباني من خلال روايتها "ثالوث وتعويذة" رسم لوحة مشبعة بالألم الداخلي الذي يتغلغل في الذات الإنسانية، ومحاولة البحث عن ماهية الوجود من خلال التعمق في إشكالية ظلت مستعصية منذ الحقبة الأولى للوج
أنت هنا
قراءة كتاب ثالوث وتعويذة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
(3)
- نورة، هل سبق لك أن دخلت مغسلة موتى؟!
اتسعت حدقتاي دهشة، وطاش عقلي·· أتكون الدعابة وسيلة لعبور جسر الموت·· ! أم أن هناك مرارة مظلمة تلج روح هذا الرجل·· تخيلته خَلِيَّ البال!
ومضى يبعثر مفردات ذاكرته أمامي :
- إنني دخلتها والله مع أعزِّ امرأة في الوجود أمي وعمري خمسة عشر عامًا·· كانت أمًّا رائعة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ·· أجل رائعة مظهرًا ومخبرًا وهذا رأي كل من عرفها·· صاحبة الأيادي البيضاء·· سخية في عطائها·· أصيبت بالمرض الخبيث باكرًا·· اختطفها ذلك المارد المسعور، تعذبت كثيرًا لم تشكُ وتتألم بل كانت صابرة··· احتضرت طويلا في غرفة أجدها زرقاء موحشة طُرِزتْ بأنينها وزفراتها·· عجزت الأدوية وجيوش الأطباء عن زيادة عمرها لحظة واحدة···
وأخذت تتلعثم بالحزن شفتاه، يبدو أنه أكثر عطبًا مني··· أفكاري مشتتة، وخيالي أصبح جامحًا حد الوهم· صور كثيرة تمر أمام عيني تهدد وتتوعد·· كم من عقدة دفينة حاولت التملص منها، فاستطالت في نفسي وامتدت مخلفة وراءها كآبة قاتمة كبهيم الليل!
وكشريط عابر لاحت في ذهني تلك الصورة التي تتساقط منها الأوجاع·· وأنا في العاشرة من عمري على ضفاف ميدان السباق·· هناك يحتشد الناس أفرادًا وجماعات، ذكورًا وإناثًا، بعد شروق الشمس بقليل·· تتبعثر العيون وتتزاحم الأجساد·· تتابع في نشوة عشرات من الإبل وهي تعدو وتعدو كالبراق·· تطوي رمال المضمار طيًّا··
نوق تسابق الطير·· وتطلق خفوفها للريح سالكة بهم سبيل من لا أوبة له، وعلى ظهورها أجساد أكثر هشاشة من ورق الخريف·· أطفال متشبثون بالخطام الذي يصلهم بالحياة أو الموت·· كمن يمسك بقشة··!
لم يكن سباق الهجن يشدني، ذهبت للمضمار يومها إرضاء لجدتي فقط·· انضممتُ لصفوف المتجمهرين - الشاخصة أبصارهم والمشرئبة أعناقهم للميدان وبقيتُ جامدة كأن على رأسي الطير··
وبين الفينة والأخرى أختلس النظر··· اطمئنانًا على الأرواح الصغيرة المعلقة بأهداب المنايا والتي لا تفتر أجسادها الهشة تعلو وتنخفض كزلزال ثائر··
حدسي يصوِّر لي ثمة أمورًا مأساوية ستحدث·· تنهمر الدموع من عينيَّ مبللة أحلامي الصغيرة والاحتمالات تتوارد إلى عقلي·· أحملق في الوجوه·· أرهف السمع لعبارات تتردد على الأفواه كان عقلي يقيدها كمحاولة منه للإحاطة بمداها:
- إن الإبل خلقت من الشياطين، وإنّ وراء كل بعير شيطانًا، وإن الرسول ()نهى عن الصلاة في مبارك الإبل·· وقصة الرجل الذي ضرب ناقته، فأضمرت الانتقام وتحينت الفرصة حتى نام ذات ليلة في العراء، فرفسته وهو نائم حتى فارق الحياة· ··
وأتذكر جيدًا كيف كنت أنْسَلُّ من جموع المحتشدين ومن يد جدتي دون أن تشعر بي، والدموع تنهمر من عينيَّ·· أنزوي تحت شجر السُّمر(7) أجلس القرفصاء·· أتشاغل باللعب بالرمال، أخطُّ أسطرًا ووجوهًا كثيرة ثم أمحوها··· أرجع خصلات شعري المنسدلة على وجهي إلى الوراء، وفجأة يهمد كل شيء، يسكن المكان، وينتشر العويل والصراخ·· ينتهي السباق كسوابقه بسقوط أحد الأطفال بعد أن تخور قواه عن السيطرة على جماح ناقته، فتطرحه أرضًا وترفسه بأخفافها الحاقدة حتى الموت··


