في كتاب "المحاورات السردية" للكاتب والباحث العراقي د.
أنت هنا
قراءة كتاب المحاورات السردية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
- مسار التلقي قضية أكبر من الكاتب والناقد، إنها زحزحة وظائف ثقافة معينة، واقتراح بدائل لها، وأنا لستُ مُعلّما، ولا توجد بيني وبين الكتّاب حوارات شخصية ومباشرة تقوم على النصح والإرشاد، إنما لدي حوارات معمّقة مع ما يكتبون، ولا أدري إن كانت آرائي قد أثرت سلبيا أو إيجابيا على قُراء آثارهم، فوقع تغيير في مسار تلقّيها عندهم· في الواقع أنا غير معني بتتبّع ما تحدثه أفكاري من آثار عند الكتّاب أو القرّاء، لكني معني أشد العناية بكيفية تحليل تلك الآثار، ونقدها، وإبراز قيمتها الفنية والجمالية·
- أنت تدهشني بدقتك، وأجدك محدّدا بنظام صارم في حياتك، ووقتك، ونتاجك النقدي والفكري، فالمقال مرتبط بعلاقة مع مقال آخر، ومجموع من المقالات يشكل نواة لبحث كبير، والبحث إنما هو فصل من كتاب، ثم أن الكتاب نفسه جزء من مشروع موسوعي· أتخيلك وسط أكوام من الكتب والمصادر· فكيف استطعت تنظيم وقتك بين الوظيفة، والكتابة الصحفية، وتأليف الكتب الكبيرة؟
- لا فرصة لإنتاج المعرفة دون تنظيم صارم للوقت، وضبط العلاقات الاجتماعية· ففي السيطرة عليهما يكمن السرّ، ناهيك، بطيعة الحال، عن الموهبة، والرغبة، والمنهجية، وهاجس الاكتشاف، وكلها من الشروط الأساسية للكتابة· ولن أفشي سرا إذا ما قلت بأني أقرأ وأكتب منذ ربع قرن في إطار دقيق ومبرمج أصبح الآن جزءا من حياتي، ولا أتذكّر بأنني قد شُغلت مباشرة بالقراءة والكتابة أقل من عشر ساعات يوميا إلا في حالات طارئة أكون فيها خارج بيتي لسبب ما· وقد زودني هذا النظام الصارم بقراءة وكتابة متواصلتين، إلى ذلك فلا أقرأ في الغالب إلا تلك الكتب التي أدرجتها في جدول يغذّي معرفتي ويغنيها ويسهم في صوغها، ويحتمل أن تكون مادة للتحليل والنقد، أو تلك الكتب التي تغذّي أفكاري بما هو جديد، فالكتب بمئات الآلاف، بل بالملايين، ولا ينبغي أن نضيع في متاهتها، إنما ننتخب منها ما له صلة بعالمنا، وأفكارنا، والقضايا التي تشغلنا، وإلا ضعنا في تلك المتاهة الكبرى، فلا نعود منها أبدا·
وأضرب لك مثالين من الرواية التاريخية والنسوية، منذ أكثر من10 سنوات تتراكم في مكتبتي روايات نسوية، لكني لم أنصرف لقراءة كثير منها إلا حينما جاء وقت الكتابة عن السرد النسوي ضمن برنامجي للكتابة عن السرد العربي، ووقع أمر مشابه بالنسبة بالنسبة للأعمال التي تندرج فيما يسمى بـالرواية التاريخية فقد انصرفت إليها كلية حينما شرعت في الكتابة عما أصطلح عليه التخيل التاريخي الذي هو أصحّ من المصطلح الاول، وينبغي استبدال هذا بذاك· أحيانا أغبط القراء الأحرار الذين لا يكتبون، فهم يعيدونني إلى زمن رائع كنت التهم فيه الكتب المختلفة دونما تمييز· ولا أنصح بذلك الآن، فكثير من الكتب لا تستحق أن تُقتنى، فكيف أن تقتطع وقتا ثمينا من القارئ؟· لا أملك الوقت لإضاعته فيما هو خارج مدار اهتمامي النقدي والفكري ومايجاوره ويغنيه·
- كيف تكتب؟ وهل من خطة تتبنّاها؟
- يمرّ عملي النقدي بمراحل ثلاث قبل أن يكتسب شرعيته الأخيرة، في الأولى أباشر تلك الأعمال الأدبية متوقفا على أهم البؤر المركزية فيها، ويظهر ذلك غالبا في مقالاتي، وحينما استكمل الكتابة عن سلسلة من الموضوعات التي تشترك في قضية واحدة انتقل للمرحلة الثانية، وهي إعادة كتابة كل ذلك بصيغة بحث دقيق ينشر غالبا في إحدى المجلات المتخصصة، وهذا البحث لابد أن يكون مرتبطا بآخر وآخر في موضوع قريب، وربما واحد، يشغلني لسنوات عدة، فلا أبارحه إلا للمراجعة واعادة النظر، وهذه البحوث تتطور في مرحلة ثالثة لتكون فصولا لكتاب، والكتاب جزءا من موسوعة·
وفي كل مرحلة أقوم بالمراجعة والتدقيق، بل التغيير والإضافة والحذف، فأتخلص من الاستطرادات، وأتوسع فيما أعتقد إنه بحاجة إلى توسّع، وحتى حينما تظهر المدونة النهائية اكتشف بأنه كان ينبغي عليّ توسيع موضوع ما، أو اختزال آخر، يسكنني هاجس الكتابة الدقيقة، والنتائج الشاملة، وتحدوني رغبة عارمة في استكمال شروط الكتابة، والوفاء لها، فقد اخترت كل ذلك، ولم أُجبر عليه· والكتابة عندي في مجموعها حوار يومي صريح مع النفس، ومع العالم، ومع الثقافة· هذه هي طريقتي في الكتابة والتأليف، وأنا ماض بها منذ أكثر من ربع قرن فلم أضع جهدا، إلا ما ندر، ولم أكتب مجاملة لأحد كائنا ما كان، ولم أستجب لا لمؤتمر أو لندوة إن لم أجد بأن الموضوع المقترح يندرج في إطار عملي النقدي والفكري، واعتذر حينما أجده بعيدا عن اهتمامي·
- لديك اهتمام معروف بالرواية النسوية، خصوصا بعد أن أفردت لها جزءا كبيرا من موسوعة السرد العربي فكيف تعرّفها، وما هو موقعها على خارطة الرواية العربية، بعد أن اختلفت الآراء والمواقف حولها؟
- قادني الاستقراء النقدي للرواية العربية إلى التمييز بين رواية المرأة والرواية النسوية· رواية المرأة هي ما تكتبه المرأة عن الشؤون العامة فتشارك الرجل بذلك، فهي كتابة لا تقوم على هوية جنسية تريد تكريسها إنما تصدر عن رؤية لا صلة لها بذلك· أما الرواية النسوية فهي ذلك النوع من الكتابة السردية التي تتوفر على أحد المكونات الثلاثة التالية، أو جميعها متلازمة: أولا أن تحتفي بالجسد الأنثوي بوصفه هوية مميزة للمرأة، فتصف جمالياته ورغباته حتى يصبح المركز الفاعل في فضاء السرد، فتنجذب إليه سائر عناصر السرد· وثانيا أن تطرح رؤية أنثوية لم تكن معروفة من قبل تمثّل موقع المرأة في العالم الذي تعيش فيه، وهذه هي الرؤية الأنثوية للعالم التي تجاهد للظهور على أنقاض الرؤية الذكورية، وتتطلع إلى إزاحتها· وثالثا، فالرواية النسوية تعرض نقدا جذريا للنظام الأبوي في مستوياته الثقافية والدينية والاجتماعية، وتقدّم هجاء مرّا له بهدف زعزعته، بل إنها تقترح تفكيكه، واستبداله بنظام أمومي يعطي للروابط الإنسانية قيمة أعلى من القيم المغلقة التي كرستها الأبوية· هذه، فيما أرى، هي المحدّدات الكبرى للرواية النسوية، وقد استقيتها من المُدونة السردية النسوية على خلفية نظرية واسعة من الاهتمام بالفكر النسوي، ويختلف التناسب بين هذه المحددات بين رواية وأخرى، وبين كاتبة وكاتبة، وقد يغيب بعضها، ويحضر آخر، فالأعمال السردية لا تخضع لمعادلات وموازين دقيقة، إنما تُعرف هوية الآداب السردية بالترجيح، وتكرار السمات العامة، فإذا ما جرى تنضيد هذه السمات المشتقّة من السرود النسوية رجح تحديد هويتها·
- هل انتزعت الرواية النسوية مكانا لائقا في السرد العربي الحديث؟
- نعم، تتبوأ الآن الرواية النسوية مكانة مهمة في خارطة السرد العربي المعاصر فقد فتحت الآفاق أمام موضوعات جديدة وطرحت رؤى لم تكن شائعة من قبل· وهي ظاهرة تمرّ بمخاض صعب ففيها تزاحم بين النصوص القوية وتلك الضعيفة، وبما أن المرأة قد فتحت قمقم التاريخ، ورغبات الجسد، فقد اندفعت كتلة متوهجة في سماء الكتابة كالبركان الثائر، وسيمرّ وقت طويل قبل أن تترسب المظاهر بصورتها النهائية، وإلى ذلك الوقت فسنجد كاتبات وروايات لن يسمح لهن تاريخ الأدب أن يتركن أية بصمة في صفحاته الخالدة، فثمة تزوير في الكتابة، وثمة ترويج زائف، وثمة إنشاء إغوائي فجّ، ولكن ثمة أعمال دشنت لهذه الظاهرة، وفتحت لها الأفق في الرواية العربية· وسيقوم كل من النقد، والذوق الأدبي، والتقاليد الأدبية، بغربلة هذه الظاهرة، والإبقاء فقط على تلك الأعمال التي تتوفر على الشروط الأساسية للكتابة الحقيقية، ولكن في جميع الأحوال لم تعد الرواية النسوية موضوع اعتراف الآن، فقد تحقق ذلك، إنما هي موضوع تقويم نقدي يريد لها أن تتخلّص من بعض العثرات السردية المرافقة للظواهر الأدبية الجديدة·