رواية "رؤوس الحرية المكيّسة" للكاتب العراقي جاسم الرصيف، تتألق بحفر قيمة اللحظة الفاصلة، بين المواطنة الصحيحة للإنسان في بلد حر، والمواطنة المسلوبة في بلد محتل، ليضع على ف أدب المقاومة العربية نجمة إبداع كبيرة مستهلها الإهداء إلى من رفضوا وظيفة مسامير أحذية
أنت هنا
قراءة كتاب رؤوس الحرية المكيسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
زمن
تناول العشاء، الذي جلبته له أمه مع وصية (السياسة لعنة فلا تقربها!!)، على حافة الخندق المتربة في ليلته الثالثة التي أمضاها في العراء مع رجال، لم يتوقفوا عن الثرثرة في السياسة، زجهم (الشيخ بعيو) بقوة التهديد بعقوبة (ألإعدام للخونة) مشفوعة بقوة (الدفاع عن الوطن) في محنته الجديدة، ثم مضى على جناح وعد بجلب المزيد من العتاد والرجال·
أمضى (ملاّ حمادي) الليلتين الماضيتين (دائخا) من كل شئ، بين آذانات أصر على مواصلتها بصوته الواهن من (برج الضغط العالي)، وبين متابعته لستة عشر ولدا وبنتا وزوجة نالت لقب (أرنبة وادي الشيطان) عن جدارة في حبل وولادة بين حبل وولادة، وكأنها لم ترتح هي ألأخرى مذ تزوجت رجلا (دائخا!!) دائما في البحث عن طعام لعائلة تزداد فردا كل عام، بين من رضيع وحاب وسائب في ألأزقة رث الثياب!!·
(لا تثرثر!!) أوصته (العضباء)، ربما للمرة الرابعة في ذلك الغروب، على حبتي بطاطا مسلوقتين ورغيف خبز، مازال ساخنا، وبعض الخضار، فقضم بصلة خضراء بصوت مسموع هازا رأسه لأمه التي واصلت وصف ماجرى في البيت هذا اليوم، وماحصل في (الثالولة)، التي تبعد عنه ستين أو سبعين خطوة، ولكنه لا يدري ماذا يحصل فيها على إلتزامه (مقاتلا) في الخندق، لأن (ملاّ حمادي) أخبرهم بأن (أحدا ما سيزورنا)، ولابد أن يكون هذا (ألأحد) شاهد ميدان (كبير الرأس) في الحكومة·
سكن الليل بعد أن ذهبت (العضباء)، وإختلس ضياء فضي نفسه من بين غيوم مسافرة في (سلام مذهل!!) من مكان ما إلى مكان ما دون عوائق، فتوهجت جمرات السيكائر في (فم الضفدع)، مع ثرثرات هامسة، وعلا شخير (العم دليو)، و (داخ!!) (زمن) في فهم إتساع السماء لملايين النجوم اللامعة وأقمار التجسس الغمّازة التي يقال أنها تصور كل شئ على ألأرض باحثة عن، أسلحة التدمير الشامل في العراق، و قطعات الجيش العراقي إستعدادا للحرب·
ربّما صوّروني!!·
همس لنفسه وهو يلتف (بأحسن بطانية) دون أن يتوقف عن أرجحة قدميه في فراغ الخندق، تاركا بندقيته على ألأرض· سقطت من تحته كتلة كبيرة من التراب، فتنحنح (ملاّ حمادي)، ولكن (زمن) سبقه في الكلام وصاح: مؤمّنة!!·
وهو يرفع بندقيته عاليا، فضج الرجال بالضحك، وقهقه (ملاّ حمادي) لأول مرة منذ ثلاثة أيام·
كانوا يسخرون من (تربية أرملة)، كلما إرتكب خطأ، ولم يزعل (زمن)، على حقيقة أن (العضباء) أرملة حقا، وقد ربته على عدم مخالطة الناس خوفا من (أصدقاء السوء) فتخلف عن كثير مما إعتاده الآخرون، مع أنه لم يجد خطأ في خوفه من (دم دجاجة!!) لأنه كان يكره مرأى الدم، وظل يخجل من عدم معرفته لإستعمال البندقية التي وضعها (الشيخ بعيو) بقوة في يده لمقاتلة (المغول الجدد!!)، كما كان يخجل من عدم معرفته لقصة (المغول) الذين غزوا (بغداد) في عهد ما·
شقت أنوار سيارتين ظلام مابعد منتصف الليل، من أزقة حي (الزنجيلي)، وظلتا ترميان بسيوفها الضوئية يمينا ويسارا، أعلى وأسفل، حتى وصلتا الخندق، فإنتفض (ملاّ حمادي) من مكانه في وقفة إستعداد عسكرية حاملا بندقيته بطريقة مهيبة، لايجيدها غير العسكريين من ذوي الخبرة، وتبادل مع رجل، من ثلاثة نزلوا من السيارتين، حديثا هامسا أيقظ بعده (دليو) من شخيره على جملة مسموعة: الجماعة يريدونك!!·
وقف هذا كقطعة مجتزأة من جدار في الظلام، بدشداشته الضيقة على كرشه، أمام الرجال الثلاثة· قال له أحدهم بتهذيب كبير: أخي! أترك بندقيتك عند (ملاّ حمادي) وتعال معنا لمدة خمس دقائق!!·
فأعطى (دليو) البندقية (لملاّ حمادي) بهدوء ودون نقاش، ثم مضى مع الرجال في سيارتهم· وعندما غابت أنوار السيارتين في شوارع المدينة المعتمة همس (ملاّ حمادي) بصوت مسموع كانت فيه نبرة الرثاء وألأسف واضحة: لا حول ولا قوة إلا بالله!!·
وظلت النجوم وأقمار التجسس تتغامز متواطئة على أمر ما، والبرد يشتد في الفجر الذي كان يمضي على المقاتلين النيام في أوضاع مختلفة في الخندق، رغم نداء ألآذان للصلاة الذي أداه (ملاّ حمادي) في (برج الثالولة)، ولم يعد (دليو)!!·