رواية "رؤوس الحرية المكيّسة" للكاتب العراقي جاسم الرصيف، تتألق بحفر قيمة اللحظة الفاصلة، بين المواطنة الصحيحة للإنسان في بلد حر، والمواطنة المسلوبة في بلد محتل، ليضع على ف أدب المقاومة العربية نجمة إبداع كبيرة مستهلها الإهداء إلى من رفضوا وظيفة مسامير أحذية
أنت هنا
قراءة كتاب رؤوس الحرية المكيسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
الثالولة
رصفت (العضباء) ثلاث قطع من (الكونكريت)، مجهولة المصدر، وسط فسحة ألأرض المتروكة بين بيتها و (برج الضغط العالي)، للطبخ عليها، ورصفت ستا أخرى حولها من أجل الثرثرة مع بنتيها، وبعض الجارات في أوقات الفراغ الكثيرة· وكانت إبنتها (صمود)، ذات الثمانية عشر عاما، ترضع طفلتها (هجران) من ثديها النحيل، حتى أغفت هذه فأدخلتها (التانكر) ثم عادت لمساعدة امها في تقشير البطاطا، قبل أن تشرق الشمس، بينما ذهبت(عنود)، ذات الستة عشر عاما، إلى شغلها في (شركة كاشان) بعد أن إلتهمت، وعلى عجل، شيئا من البطاطا المسلوقة مع الخبز وقدحين من الشاي، (مشغولة ألأفكار!!) كما لاحظت (العضباء) بقلق·
-: (الكاز) سينفد غدا!!·
قالت (العضباء) لإبنتها بحزن بدا قدريا على وجهها المتخشب ألأسمر، وكررت الجملة مرات، كما ألأطفال الذين يتمرنون على حفظ نشيد مدرسي، ولم تعلق (صمود) على كلامها، لأنها تعرف أن أمها ستردد هذا (النشيد)، لأيام أو أسابيع، حتى تنال شيئا من النفط ألأبيض بأية طريقة·
(زمن) في الخندق، وعربة الشغل مربوطة بسلسلة فولاذية على جدار (التانكر)· هكذا تريد الحكومة، وهكذا أرادت (العضباء) خوفا من الحكومة· كثيرون هربوا، منذ اليوم ألأول لتجنيدهم، من الخنادق التي إنتشرت حول المدينة، غير مبالين (بالشيخ بعيو) ولا (بالرؤوس الكبرة) ألأخرى رغم التهديدات (بحكم ألإعدام)، وصاروا مطلوبين رغم عذر (لقمة العيش!!)·
ولكن (العضباء) لم تشأ لوحيدها أن يخالط (مطلوبين)، إعتادوا الفرار إلى (وادي الحرامية) ومخابئ البرية الغربية، وأماكن أخرى، لأنها تظن أنهم كانوا على إستعداد للزنى بعماتهم إذا إحتاجوا إمرأة، وسرقة ماتمتلكه أمهاتهم إذا إحتاجوا شيئا من المال!!·
ألقى (ملاّ حمادي) عليهما تحية الصباح مستعجلا، وأدى آذان الفجر بصوته الواهن المشروخ، الذي يسرق نهايات الكلمات الطويلة فتتحول (أكبر) إلى (أكبا) و (الفلاح) إلى (فلا)، على إنقطاع في النفس، فلم تتردد (العضباء) في ممارسة عفويتها معه عندما نزل من الدرجات الثلاث التي إرتقاها على البرج ليؤذن، إذ قالت له بود: يا أخي لماذا لاتترك هذه المهمة لغيرك؟!·
-: لم يتطوع لها غيري يا (أم زمن)!! وصوتي ألآن هو (ألأجمل!!) في (الثالولة)·
أجاب ضاحكا·
عندئذ سألته (العضباء) غاضبة: بربك الذي ناديت بإسمه قبل قليل، هل يفهم (زمن) شيئا من القتال؟! لم يمس بندقية في حياته!! يخاف من دم دجاجة!! ويبكي إذا جاع!! ويقول (الشيخ قندرة عتيقة!!) أنه (رجل)!! و···!!
فقاطعها (ملاّ حمادي)، وهو يهم بالإنصراف، إذ كان قد سمع منها هذه الشكوى مالا يقل عن عشر مرات خلال اليومين الماضيين: إتكلي على الله!! إتكلي على الله!!·
ولكن (العضباء) ألقت بيدها السليمة على كتفه وهي تتوسل: شوف!! راتب المرحوم ماعاد يكفي بسبب الحصار· الحكومة أخذت زوجي، وألآن تأخذ إبني الوحيد!!· كيف نأكل يا (ملاّ)؟!· كلنا نساء!! ولا أم في الدنيا ترضى أن تشتغل إبنتها في نبش الزبالة وهي في سن الزواج!! لا أم في الدنيا لاتخاف على إبنها الوحيد من القتال!! والله ينهزم إذا نبح عليه كلب في الزقاق!! قل لهم، ليعفونه من هذا الواجب!!·
عندئذ تملص هذا من قبضتها وهو يكرر آسفا: أنا مثله ألآن يا أختي (عبد مأمور)!! ولاحول ولاقوة إلا بالله!!·
ثم مضى مستعجلا، فعادت (العضباء) لمساعدة (صمود) في سلق مزيد من البطاطا وهي تردد مخاطبة نفسها بدهشة: الخوف يصنع ألأعاجيب!! عبد مأمور!! عبد مأمور!!·