أنت هنا

قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هندسة أقل.. خرائط أقل

هندسة أقل.. خرائط أقل

في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
فخاخ العتمة
 
من يفقد حاسة البصر يحاول استخدام الحواس الأخرى ـ السمع، الشم، اللمس ـ في معرفة ما يحيط به من أشياء وكائنات وحركات وأفعال، وفي فهم ـ ومن ثم التوافق مع ـ الواقع الذي لا يعود مألوفاً وأليفاً·
 
في غياب الضوء، الذي يحدد شكل وطبيعتها وملامحها الأشياء، تتجرّد هذه الأشياء من أشكالها الثابتة وتصير متحوّلة ومتعددة· إنها تطفو في هاوية الظلمة دون أن تستقر· العتمة تنتصر وتحكم، وكل شيء ينسحب إلى الداخل حيث انحسار الضوء واختلاط ما هو كائن بما هو محسوس· الأبواب تنفتح إلى الداخل، فالخارج الآن محض انعكاس داكن، صورة لما هو موجود في الداخل أو هو مجرد ظل· والاستعاضة بالحواس الأخرى ما هي إلا محاولة موجعة لاستعادة الضوء الفاني أو للإمساك بآثار رؤية تجمدت في لحظة من الزمن· وما إن يتحرك الشيء، أو يُنقل من مكانه (الطاولة مثلاً) حتى يفنى ولا يعود موجوداً· وفي المساحة الخالية التي كان يحتلها، يفتح الفراغ هاويته وسديمه وهيوليته، وفيه يضيع الذي لا يرى·
 
العالم الذي كان يعرفه، ويتجوّل فيه بحرية وثقة وأمان، يصبح مظلماً، غامضاً، وربما عدائياً· العالم لا ينفي هذا الذي لا يرى، ولا ينفصل عنه نهائياً، بل يحبسه، يحدّد إقامته، يراقبه بازدراء أو بشفقة وهو يتخبّط في شباك الالتباس، ويخوض في اللايقين ناقلاً قدمه الحائرة من ورطة إلى أخرى· ويجعله ـ هذا العالم ـ رهين الارتياب، فكل صوت وكل حركة تستنفر موجات من الريبة والالتباس، ومعها يشعر بأن كل شيء متواطئ ضده·
 
العالم يريد أن يثبّته في النقطة الفاصلة بين هنا وهناك، الداخل والخارج، النوم واليقظة، الوجود والعدم·
 
إحساسه الحاد بالعجز والإبعاد، الذي تفرضه حالة العزل القسري أو الاختياري، وفقدان المشاركة، يجعله أسير قناعة، تترسخ شيئاً فشيئاً، بكونه ضحية استبدادية الأشياء واستبدادية الواقع·· هذا الواقع الذي ينصب له الشراك أمام كل خطوة· شراك طبيعية وشراك وهمية عليه أن يتفاداها برشاقة ودهاء وخبث طريدة علّمها القنص الأزلي كيف تستشعر الخطر وتتجنب المكامن·· غير أنه غالباً ما يقع أسير الفخ·
 
الأعمى يستخدم الأصابع كما لو أنها أعين· لا يريد أن يلمس ويتحسس فحسب، بل يريد أن يرى· يريد للأصابع أن تضيء المسالك، أن تتقرّى الملامح، أن تحدّد الأشكال· الأعمى يرسم على طرف كل إصبع عيناً· وهو يستخدم العصا أو العكاز كبديل آخر: به يطرق الفراغ معلناً عن حضوره، به يذكّر الآخرين بوجوده ليفسحوا له، به يدرك إلى حدٍ ما طبيعة العوائق ومصادر الأذى، وبه أيضاً يقرأ التخوم· لكن العكاز عين خشبية·
 
حاجته إلى دليل بشري هي حاجته إلى عين أخرى بديلة، ليست ناقصة وليست رمزية· إنها العين البشرية التي لا تخطئ· والتي تحميه وتجنّبه الوقوع في الشرك· مع هذه العين، عين الدليل، يشعر بالثقة والأمان، ولا يجد نفسه مرغماً على أن يكون قائد نفسه· إنه يستسلم كلياً، بإذعان وبلا إرادة، لليد التي تقود الخطى وترسم الجهات·· ويصير ظل الدليل·
 
بالذاكرة يستعين الأعمى حين يكون رفيق الوحدة، وحين يمشي بلا هداية أو دراية، معانقاً الظلمة الدائمة·
 
الذاكرة اختزنت الأماكن التي تجمّدت نهائياً بكل محتوياتها· ولأنه لا يرى تحولات الأماكن بفعل الزمن، فإنه يبقي الصورة القديمة حيةً· إنه يعبر الطرق التي سلكها مرات كثيرة من قبل، يخترق الأماكن التي حفظها، يتجه مباشرة إلى الأشياء التي ثبتت في موضعها·· وأي تغيّر أو تحوّل أو استبدال يفضي إلى إرباكه وتوريطه في مآزق لا تُحصى·

الصفحات