أنت هنا

قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هندسة أقل.. خرائط أقل

هندسة أقل.. خرائط أقل

في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7
بمعنى آخر، هو لا ينتمي إلى واقعه الذي ينكره ويحرمه من كل شيء، قدر انتمائه إلى ذاكرته التي تغذّيه بالصور والإشارات والمعلومات· إنه يتحرك في الفضاء الخاص، والزمن الخاص بالذاكرة·
 
الأعمى لا ينسجم مع محيطه، ولا يتصالح مع أشياء محيطه، فهو دائم الارتطام بها، كما لو يحاول اختراقها، كما لو ينفي وجودها· مع ذلك، هي تعترض طريقه، تعوقه، تجبره على الرضوخ لكينونتها وتغيير مساره لتحاشي الاحتكاك بها، أو التوقف في حيرة وارتباك أمام حضورها المطلق والمستبد·
 
إنه في خصام دائم مع العالم، رغم إدراكه بأنه سوف يخرج من الحلبة مهزوماً في كل مرة·
 
نزال غير متكافئ، جائر وغير منصف، ذلك الذي يخوضه الأعمى بلا رغبة ولا هدف· إنه أمر مفروض عليه، ولا خيار له· جسده لا يستقر ولا يتآلف مع حالته (العمى) بل يضطرب ويتعثّر ويرتطم ويصطدم·· وباستمرار ينهزم·
 
الأعمى، في أحوال كثيرة، يرفض أن يكون عالة، يأبى أن يكون عبداً أو تابعاً· حساسيته البالغة، الناجمة من وضعه الخاص، تجعله ينظر إلى فعل المساعدة كخدش لمشاعره وتجريح لكرامته وانتهاك لاستقلاليته· لذا فإنه يسعى إلى إقناع الآخرين بأنه يرى فعلاً، ولكي يبرهن على ذلك فإنه يتصرف كالمبصر، ويسخر من نظرة الآخرين إلى عاهته·
 
لكنه أحياناً يستخدم حالته أو عاهته كسلاح، كوسيلة لاستدرار الشفقة والعطف والإحسان·· ولكي يخدمه الآخرون·
 
إنه يحصّن ذاته، ضد القنوط والهزيمة، بالتلاعب والتحايل والمكر· فإذا لم يستطع أن يمنع القدر من إنجاز مهمته بالإجهاز على مصدر ضوئه، فإنه على الأقل يستطيع استغلال هذا الانطفاء في تجنيد من يقوم على خدمته أو تلبية حاجياته الضرورية·
 
إنه يطالب بقدر من ضوء الآخر كحق أو كواجب· وهو لا يكف عن تذكير الآخر بأنه مثله: غير محصّن، قابل للعطب، ويمكن أن يصير أعمى لأي سبب، وفي أية لحظة·
 
المكفوف منذ الولادة يخترع لنفسه عالماً خاصاً به، يشيّده من عناصر المخيلة، وما تمليه الحواس الأخرى من إشارات وعلامات ورموز· وفي هذا العالم يستقر وينمو، ومنه يستمد نظرته إلى العالم الواقعي الذي انفصل عنه بصرياً لكن اتصل به غريزياً· إنه يعيش في عالمين في وقت واحد: أحدهما يراه عبر مخيلته، والآخر يدركه عبر الحواس·
 
لكن هناك العمى المجازي·· ذلك الذي يبصر لكنه يرفض أن يرى، ذلك الذي يغمض عينيه حين يستدعي الأمر أن يفتحهما على سعتيهما، ذلك المخطئ الذي لا يرى خطاياه، ذلك العبد الذي لا يرى شرور سيده، ذلك المخدوع الذي لا يرى أفعال من يخدعه، ذلك الذي يرى الشيء في وضوحه وسطوعه لكنه ينكر ولا يعترف·
 
(عيناك مفتوحتان على الضوء، لكنك لا ترى)··
 
هكذا قال العرّاف الأعمى تريزياس لأوديب·· وأوديب هذا فقأ عينيه لأنه لم يكن يرى بهما·· لم ير آثامه·

الصفحات