أنت هنا

قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هندسة أقل.. خرائط أقل

هندسة أقل.. خرائط أقل

في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9
الذاكرة·· مستودع الذات
 
التذكّـر هـو فعـل تحرّر مـن المكـان (هنـا) ومـن الزمـان (الآن)·
 
عودة فورية وسريعة إلى ماض بعيد أو قريب· هذه العودة تكون إرادية أحياناً، بدافع الاستحضار المقصود لشيء يلبّي حاجة معينة، وأحياناً تكون مباغتة، اعتباطية، ولا تتصل بفعل الإرادة·· وفي كل الأحوال لا بد من وجود محفّز ومحرّض: صورة، صوت، رائحة، حدث·· وأشياء أخرى لا تقل أهمية في عملية الاستدعاء·
 
الذاكرة ليست كرونولوجية·· أي متسلسلة زمنياً· إنها لا تقدّم تاريخاً متواصلاً، بل شظايا مبعثرة من هذا التاريخ· فالتذكر هو اقتطاع، انتقاء لحدثٍ ما أو صورةٍ ما أو وجهٍ ما، ثم انتزاعه من سياقه الزمني والمكاني، أي عزله عن محيطه، بتركيز البؤرة عليه وحصره في مجال الرؤية، وبذلك يكتسب خاصية جديدة لم تكن متوفرة له وقت وقوعه أو اختباره للمرة الأولى· من جهة أخرى، لا يمكن التحكم دائماً بالذاكرة وتوجيهها· حتى عندما يكون الفعل انتقائياً فإن الصورة، كذلك الوجوه والأحداث، المراد استحضارها، تجر وراءها سلسلة من الصور والوجوه والأحداث التي تتداعى دونما ضبط أو تخطيط·
 
الذاكرة، إذن، لا يمكن التنبؤ بها، بما سوف تقدمه·
 
الكائن الحي ذاكرة تعمل·· كما يقول العالم البيولوجي هنري لابوريه· والذاكرة مستودع الذات، فيه يختزن المرء كل ما شكّل حياته منذ طفولته، كل تجاربه وتحولاته· لكنه لا يستطيع أن يستخرج من هذا المستودع الوقائع ـ مثلاً ـ بحرفيتها وتفاصيلها الدقيقة، ليس فقط بسبب طبيعة التشظي واستحالة التحكم، وتركيز البؤرة على أجزاء صغيرة من حدث ما، إنما أيضاً لأن الذاكرة، عندما تستعيد أو تستحضر الأشخاص والأمكنة، فإنها تخلقهم من جديد عبر نظرة جديدة وطرية·
 
الذاكرة، من هذا المنطلق، إعادة خلق ـ عاطفياً ونفسياً وبصرياً ـ لعالم ينتسب إلى الماضي· وعبر هذه العملية، نقوم بامتصاص ذلك العالم داخل ذاتٍ ترى ما تريد أن تراه، أو تتلقى بسلبية ما يُعرض عليها· بالتالي فإن الذاكرة غير واقعية وغير صادقة على نحو مطلق·
 
أيضاً لا يمكن الوثوق بها، والاعتماد عليها كلياً، في التزوّد بما هو مخزون في أية لحظة نشاء· إنها تصبح مستعصية ومراوغة، لهذا يدوّن المرء ملاحظاته وأفكاره ويومياته والمعلومات التي سوف يحتاجها يوماً، ويحتفظ بالصور للتحايل على النسيان، والتذكير بما كان وما حدث·
 
أن تفقد الذاكرة يعني أن تفقد السيطرة على كل شيء وتخضع لانتصار النسيان· وكما قال يوجين ديلاكروا: الإنسان بلا ذاكرة لا يعرف على ماذا يستطيع أن يعّول·· كل شيء يخونه·

الصفحات