أنت هنا

قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هندسة أقل.. خرائط أقل

هندسة أقل.. خرائط أقل

في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10
نوستالجيا
 
الماضي لا يمضي· لا يغيب كلياً· إنه يعيش معك، في داخلك· ويتعايش مع حاضرك مشكّلاً رؤاك وأحلامك· الماضي هو جذرك· أول كل شيء· مجموعة تجارب متراكمة تشكّل حقيقتك وواقعك· أحياناً يكون مهيمناً ومسيطراً، أحياناً يأتي على هيئة شذرات، شظايا، وبصورة استحواذية أقل·
 
في كل الأحوال، لا تستطيع أن تنفصل عنه، أن تنقطع عنه، وحتى إذا حاولت، بطريقة أو بأخرى، فإنه يرتادك من حيث لا تدري ولا تتوقع· رائحة ما، صوت ما، وجه ما·· يعود بك في لمحة إلى عالم كنت تظن أنه تلاشى منذ أن غادرته·· عالم الطفولة أو المراهقة·· مرحلة لا تعود تحتفظ بتماسكها المادي، إنما تقدم نفسها في شكل أجزاء منفصلة تبدو أحياناً ميتافيزيقية· فأنت لا تعود إلى الكل بل إلى الجزء·· الجزء الأكثر حضوراً لأنه الأكثر تأثيراً·
 
الحنين إلى الماضي هو حنين إلى ما هو مفقود في الحاضر· الأشياء التي كنت تعيشها وتختبرها وتراها، ولم تعد موجودة أو يصعب استعادتها· إنه، بمعنى ما، إحساس بانعدام التناغم والانسجام مع أحد مظاهر الحاضر· وكلما ازدادت الضغوطات تكاثر الحنين·
 
النوستالجيا ضرورية إلى حد ما، لكنها مؤلمة، لأنها تنبع ـ في أغلب الأحيان ـ من موقف أو وضع أو شعور مؤلم، ولأنها أيضاً عبور مؤقت إلى إقليم قد يجد فيه الراحل إلى هناك نوعاً من الطمأنينة والراحة·· غير أنها طمأنينة زائلة·
 
نقول إن الماضي أجمل· لكن لا نجاة في هذا القول، لا جدوى· الماضي دائماً يجمّل نفسه لكي يغويك·· ربما لهذا السبب تراه أجمل· ولأن الحنين إلى الماضي يتسم بنزوع رومانسي فإنه ـ الماضي ـ يبدو أجمل· إنك لا ترى الجوانب المظلمة، الكئيبة، المتوحشة، بل ترى ما تريد أن تراه: الجوانب المضيئة، المبهجة، المنعشة روحياً·
 
الكتابة عن الماضي هي محاولة يائسة لاستعادة مرحلة معينة، للإمساك ثانية بما كان في متناول أيدينا وأعيننا وصار الآن مفقوداً وغائباً· إنها محاولة موجعة لاستحضار البديل، الذي لا يمكن أن يكون بديلاً، لحاضر يفرض سماته وشروطه ومعطياته الجديدة والمختلفة، والذي سيصير ـ في الغد ـ ماضياً قد يمثّل البديل عند آخرين، أو حتى عند أنفسنا·
 
الكلام (أو الكتابة) عن الأماكن القديمة، بكائناتها وأحداثها التي غادرت مواقعها لتسكن في الذاكرة واللاوعي، غالباً ما يكون استحضاراً ضبابياً، خليطاً بين الواقع والوهم، ولا يمكن الوثوق بالنزاهة المطلقة التي يدّعيها المستحضر·
 
المخيلة دائماً ترافق الذاكرة· عندما نتذكر حدثاً ما فإننا في الوقت ذاته نتخيله، أي نضفي عليه ـ لا شعورياً ـ درجة من الخيال ودرجة من الوهم· هكذا يصبح الحدث مادياً وميتافيزيقيا في آن، حقيقياً وزائفاً في آن، فالحدث لا يتجسد أمامنا حرفياً بكل تفاصيله الدقيقة والواقعية، ذلك لأنه منتزع ـ بقوة الذاكرة والتخيّل ـ من محيطه، من الحدث الذي سبقه أو تلاه، أي من تاريخه· إنه يتجسد كحدث مستقل، منفصل، معزول·
 
الاستحضار فعل انتقائي، وهو بالتالي ليس بريئاً من التأويل أو إعادة التأويل التي نفرضها بشكل محتوم ومتعذر اجتنابه، إذ إننا ننظر إلى الحدث الماضي من وجهة نظر ذاتية بحتة، أي نشكّله وفق رؤيتنا الخاصة وتفسيرنا الخاص ومن ثم سوف يفتقر إلى النظرة الموضوعية· الحدث الذي كان عادياً في حينه وغير ملفت أو مثير للاهتمام، يكتسب خاصية استثنائية ويتحول في عينيّ المستحضر إلى شيء مهم وغير عادي·
 
النوستالجيا انحياز إلى الماضي، إلى قيم وعادات ومفاهيم سابقة، إلى علاقات قديمة انتهت· إنها يمكن، إذن، أن تحمل صبغة رجعية، فالاستغراق الكلي في الحنين هروب من أزمات ومشكلات راهنة، إنه اعتراف صريح بالعجز عن فهم الواقع، أو عن محاولة فهمه والانسجام معه· والبعد النوستالجي لا يكمن في كل عمل إبداعي يتناول الماضي، بل يكمن في الذهنية التي تتعامل مع الحاضر على أساس أنه عقيم، مفعم باليأس، وغير قابل للتغيير·

الصفحات