"في البال" للكاتبة الأردنية غصون رحال؛ تتناول فيها العدوان الصهيوني على غزة من منظور أدبي؛ ففي أسلوب سردي مشوق، تضع الأدبية كل خبراتها المعرفية والجمالية والإبداعية للكشف عن مسيرة طويلة من محطات الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال إستعراض تفاصيل الحياة اليومي
أنت هنا
قراءة كتاب في البال
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
تسارعت أنفاسها وهي تقترب من غايتها: وكيف عايشتم الضربة الجوية على بغداد؟
هزّ أبي رأسه أسفاً وقال: أخ، ماذا أقول الآن؟ عندما علمنا بالضربة، صعد سكان البناية إلى السطح وتابع صغيرنا وكبيرنا ما أسموه عملية التحرير قابلناها بالهتافات والزغاريد، ليس كرهاً بالنظام العراقي بقدر ما هو الأمل بإعادة الأمور إلى نصابها والعودة إلى حياتنا الطبيعية التي ألفناها·
- وما الذي حصل بعد التحرير؟
- بعد أن انتهت الحرب وعاد الأمراء وأصحاب الشركات· حضر الشيخ صاحب الشركة التي كانت تعمل بها لميس إلى منزلنا ليشكر لميس على جميلها· كانت الحكومة الكويتية قد أصدرت قراراً بالغاء إقامات جميع الفلسطينين في الكويت؛ فعرض مساعدتنا في الحصول على الإقامة لي ولوائل، أما لميس فمنحت الإقامة ليس اعترافاً بجميلها، ولكن لأن زوجها يحمل الجنسية المصرية· فكّرتُ في عرضه فوجدته لا يتعدى طعنة في الظهر· أبعد كل هذا الإخلاص والولاء يعرض علينا الإقامة فقط؟! والله عيب· حفيدي، ابن يوم واحد فقط، حصل على الجنسية الأمريكية لأنه ولد على الأرض الأمريكية، بينما لم تشفع لي ثلاثون عاماً من التفاني للحصول على أية جنسية عربية! كظمت غيظي وانتظرت أن يأتيني بالإقامة·
- وهل نجح؟
تابع أبي بمرارة: فيما نحن ننتظر، عادت أم عماد إلى الكويت وحاولت الحصول على تأشيرات سفر إلى بريطانيا لي، ولوائل· ولكن السفارة لا تمنح تأشيراتها لمن هم دون إقامة، وبعد سلسلة من الوساطات، نجحت المحاولة الثالثة التي قام بها الشيخ وحصلنا ثلاثتنا على إقامة لمدة سنة، وعلى إثرها حصلنا على تأشيرات السفارة البريطانية، وغادرنا الكويت في ربيع عام 1992· ومن حسن حظّنا جميعاً ان أم عماد تحمل الجنسية البريطانية، ويحق لها حسب القوانين البريطانية أن تضم عائلتها· تقدمنا بطلب الحصول على الجنسية البريطانية وبعد سنتين فقط حصلنا عليها· صرفت لنا الحكومة معاشاً أسبوعياً ثابتاً، ووفّرت لنا المسكن والعلاج المجاني، وها نحن نعيش في هذه الغربة منذ أربعة عشر عاما·
غيّرت الموضوع بسرعة باتجاه استكمال تفاصيل الحكاية السابقة قبل أن يرخي النعاس بثقله على أبي وسألت: عمي أبو عماد، سؤال أخير من فضلك··· كيف التقيت بخالتي أم عماد؟
تفاجأ أبي بسؤالها غير المنتظر، تلعثم هامساً: سأجيب عن سؤالك، ولكن باختصار·
قاطعته: ماشي·
تابع أبي: كان ذلك في أواخر الخمسينات، وكنت في حوالي السادسة والعشرين من عمري، حين طلب مني أحد أصدقائي أن أصطحبه إلى المطار لاستقبال خاله القادم من قبرص· في المطار وجدت امرأة وصبية برفقة الرجل، عرفت أنهما زوجة خاله وابنته· في حياتي لم يقع بصري على فتاة بمثل هذا الجمال··· صبية في العشرين، بطول فارغ، وعينين واسعتين، واسعتين، هما أكبر ما رأيت طوال عمري، تحتلان نصف وجهها الأبيض المشرب بحمرة طبيعية رائعة···
همست: آه، إذن هو حب من النظرة الأولى!
تابع أبي متجاهلاً تعليقها: طلبتها من والدها قبل موعد عودتهم إلى قبرص بأيام، ولولا صديقي وشهادته أمام والدها بحسن سلوكي وأخلاقي، لكانت رحلت إلى قبرص إلى الأبد· تزوجنا في ثلاثة أيام، وأشرف والدها على جميع التحضيرات الخاصة بالمسكن والأثاث بما فيها الجهاز الشخصي للعروس·
نامت ليلتها تلك وهي تفكر في كل ما سمعته، وربما تحلم بزمن تتشابك فيه المسافات وتختفي فيه الحدود الفاصلة ما بين الهنا والهناك··· زمن تلغى فيه جميع الخرائط والحدود، وينتفي معه الاعتراف بقدسية جوازات السفر·
أبي وأمي أكتفيا من الحياة بما مضى· توقفت مسيرة الزمن بالنسبة إليهما في الثاني من آب عام 1990· كل ما يستحق استحضاره أو الحديث عنه، هو تفاصيل حياتهما في الكويت لأكثر من ثلاثين عاما· كان أبي السائق الخاص للأمير جابر الصباح، قبل وبعد تولّيه الإمارة، موضع سرًه، والأمين على أسرته· يوصل نساءه وأولاده إلى حيث يرغبون· يستقبل ضيوفه من القادة والأمراء والرؤساء والملوك· وكان الأمير يغدق عليه من كرمه وعطاياه في كل المناسبات، بالإضافة إلى الهدايا الخاصة التي يمنحها له الزعماء والضيوف، والتي لا يزال يحتفظ بها ويتذكر مناسبات تقديمها، حتى إنه بكاه بحرقة يوم وفاته تماماً كما بكى والده، بالرغم من تخلّيه عنه بعد الحرب·
أما أمي، فانصبّ همّها الأول على تربية أبنائها وتعليمهم· وبعد أن كبرنا، باشرت بأخذ نصيبها من الحياة الاجتماعية الحافلة بشتى المناسبات، وقضاء أشهر الصيف في أوروبا·
منذ أربعة عشر عاما، وأبي وأمي يبنيان السدود والحواجز التي تحول بينهما والعالم الخارجي في هذا البلد· بيتهما حصن منيع في مواجهة الغرباء، لا يفتحان الباب لأي طارق إلا إذا كان هناك موعد من أجل كشف أو صيانة أو تصليح خراب ما· لا يخرجان من البيت إلا لقضاء حاجة ضرورية، أو ابتياع الحوائج المنزلية· في أعياد الميلاد يكتفيان بوضع بطاقة معايدة على أبواب الجيران ذوي القربى والجار الجنب، وإن رنّ الهاتف لأمر ما، يعتذران عن الحديث بسبب عدم تمكنهما من اللغة الإنجليزية بكلمات قليلة: sorry, donصt speak English· أخي وائل وأنا من يتكفل بالتعامل مع الرسائل البريدية المتعلقة بالفواتير، وإصلاح الأعطاب التي قد تلحق بمنزلهما·
راكم أبي خلال هذه السنوات عدداً من أمراض الشيخوخة، بالإضافة إلى استبدال ركبتيه الطبيعيتين بركبتين حديديتين· أما أمي فتصيبها نوبات من ارتفاع ضغط الدم· فجأة، يتأجج وجهها الأبيض بوهج أحمر، ويصعب عليها التنفس، فتخرج إلى الحديقة مسرعة لاستنشاق الهواء·


