أنت هنا

قراءة كتاب المفتون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المفتون

المفتون

الذي يميز هذه الرواية "المفتون" هو أن حوارها يحتوي مجموعة من اللغات، التي يتقاطع بعضها مع بعضها الآخر، فينفرط الصوت في لغات متعددة تأخذ من الهضاب والأعالي والسهول والسجون والمستشفيات لغاتها الخاصة.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1
المفتون
 
(قراءة في واقع ملتبس)
 
كتب عزيز السيد جاسم روايته الثالثة المفتون سنة 1987، بعد روايتيه المناضل التي صدرت عن دار الطليعة سنة 1970، والزهر الشقي التي صدرت عن الهيأة المصرية العامة للكتاب سنة 1987· وكان قد أودعها لدى الهيأة المصرية العامة للكتاب: لكن ظروفاً ما قادت إلى ضياع المخطوطة، وتيسرت نسخة أخرى، تعوزها بعض الصفحات، لكنها تكاد تكون كاملة بعدما تم ملء بعض الفراغات التي طمست كلماتها أثناء التصوير·
 
والرواية فريدة في كونها واحدة من النصوص القليلة المعنية بوضع العراق الحديث، منذ 1958· لكن المدقق في الرواية يدرك انها تلم بالبلاء الذي نكبت به البلاد، منذ أن اعتلى دفة الحكم فيها نظام شعاراته تبرر له وحده التحكم بالحياة العامة للناس، فكان ان ضاعت المقاييس وانعدمت الأنظمة والقوانين، وكثرت التصرفات الإعتباطية، وأصبحت الحياة مشدودة بالقوة إلى ما يأتي من الأعلى· وهكذا كثُر الترحم على العهد الملكي، وصدرت مقالات وكتب كثيرة منذ خاتمة الستينات، كلها تبكي حياة مضت·
 
والرواية لا تأتي إلى هذا الواقع بهذه المباشرة، لأنها فريدة في استنطاق الباطن القصي البعيد للشخصيات القليلة التي تنفرد بالحوار· فـ المفتون رواية حوار أولاً، ولأنها كذلك لا تستقصي الوصف التفصيلي· فالحوار بن يوسف اليعقوبي والطبيب هارون هو السائد، تتخلله حوارات بين بعض النسوة، كبيداء، وبين الطبيب هارون، أو بينها وبين أخريات· كما ان الطبيب يمكن أن يستقطب آخرين، أمثال سالم اليعقوبي، والد يوسف، أو زوجه المطلقة· هذه الحوارات هي بدائل الوصف، كما إنها عدة السرد الأساس لاستجماع التعددية الصوتية التي تزخر بها الرواية، فتأتي بالمكان، الريف والمدينة، في زوايا ومواقع محددة، كالعيادة الطبية والمستشفى والسجن، لتحكي لنا ما يعلنه فوكو منذ السبعينات في أن هذه المواقع غالباً ما تفسر هيمنة ما، طاغية، متقلبة، ومتغيرة باستمرار· إنها امثولات العقلية الغالبة، تلك التي تشغف بالسيطرة، وتسعى باستمرار لتحويل الآخرين إلى هامشيين تابعين، خاضعين للبحث والتجريب والإدارة، والهيمنة الكلية لإداراتها· ويمكن أن نبتعد قليلاً في التأويل، فنقول انها مواقع لمرموزات أوسع: فالأوطان في أنحاء معينة من العالم لم تعد حرة، ولم يعد استلابها على أيدي المستعمرين، منذ أن تحررت سياسياً· فتسلط عليها نفر من أبنائها، تدربوا-بوعي أو بدونه- على أسوأ ما لدى المستعمر، وأضافوا إليه ما ورثوه من ثأر داخلي ضد واقعهم الشخصي أو الإجتماعي، فمارسوا ظلماً اجتماعياً وطغياناً لم يدر ببال المستعمر من قبل·
 
و المفتون تأتي بالشخوص في لحظة الإلتباس الفريدة، تلك التي يعلن فيها يوسف اليعقوبي إنه شخصية منفصمة منذ أن جرى تعذيبه وهو لم يزل شاباً يافعاً لتهمة سياسية باطلة· إنه الذكر الجميل المغري لنصف عام، والذي يغرقه الجدب في النصف الآخر، فيكون أنثى· وهذا اللبس على صعيد الجنس والنوع يعيد الشخوص إلى العمق الإسطوري، عمق تموز وعشتار، حيث يتبادل الخصب والجفاف، الربيع والخريف، الحب والموت، في إيقاع متصل، لا يحكيه غير ذلك التفجع الذي يسكن الفرح والحزن، في الكتابة والغناء، بين ضفاف الرافدين·
 
وبينما يجري استقدام الطقس الاسطوري بهذه الإيحاءات المتباعدة، تقيم الرواية حضورها السردي القوي على أساس التقابلات بين الشخوص، الرجال والنساء، بين يوسف وهارون، وبيداء والأخريات، وبين أم يوسف وسالم أبيه· لكن السرد يتدفق أيضاً كلما انفجر الداخل الشخصي لهؤلاء، فيظهرون بتناقضاتهم وأزماتهم، بين صوت معلن وآخر مضمر، بين الرغبة في الإلتحام بالآخر أو التماهي معه أو معها، وبين النزعة الشديدة للتباين أو الثأر أو التخلي الكلي عن الماضي، فالماضي ملتبس هو الآخر، لأن الحاضرين يعيشون بين آثاره أولاً، كما إنهم يسعون إلى طمسه ثانياً· وسواء هجر سركال الشيخ القرية وسكن المدينة، أو بقي هناك، فإن صوته المعلن يحكي أرقاً ورعباً يعجز عن التصريح به ذهنه المثقل بالضغينة والكراهية· فالسركال سالم، يد الشيخ الطولى في معاقبة الفلاحين وإلقائهم في حفر الموت وآبار العذاب، لا يحرره الإدمان من الرعب، وتبقى عيناه تتحركان باستمرار يمنة ويسرة، ترقباً لهجوم محتمل، لم يأته هذه المرة من إبنه يوسف الذي عرف فيه قاتلاً كريهاً وأبا لا يستحق الرأفة، بل جاءه من شخص آخر، كان طفلاً عندما قتل سالم أباه في ضوء رغبة شيخ الإقطاع هناك· ويبقى سالم اليعقوبي شخصية لا تقل إثارة وعمقاً عن الطبيب هارون، فكلاهما يستكمل الآخر، وبينما يسعى الطبيب إلى طمس الماضي، تراه يبحث عن يوسف كلما غاب عنه· إنه نصفه الآخر الذي لا حياة بدونه· كما ان يوسف يبقي الطبيب مأسوراً بما لديه، متجسداً هذه المرة بملامحه الجميلة وتقاطيعه المغرية الفذة· لكن الرواية التي تجعل من الظاهر جسداً بهذه الغواية وذلك الإغراء، تحقق من خلال ذلك بؤرة مركزية تستجمع إشعاعاتها الرواية التي تبني خيوطها على الجسد بصفته مكاناً· إنها رواية المكان بامتياز، تلك التي تحقق زمانيتها من خلال الإلتحام بالتاريخ، بينما تتحرر من هذا الزمان وحدوده كلما عايشت الاسطورة، ورافقت أساطير سومر وآشور، بدون إشارة معلنة واحدة، فتقيم بين ضفاف الأنهار والمدن والقرى بأنينها وفجيعتها الضاربة·

الصفحات