الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد
قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
في تلك الأثناء قام أهل القرية بتكوين الوفد الأول للترحيب بالسيد المشير، واختاروا أكثرهم خبرة في التحدث أمام ممثلي السلطة الذين كانوا يظهرون في القرية في فترات متباعدة، أحياناً وهم يرتدون ملابس عسكرية خانقة مثقلة بالنياشين وأحياناً وهم يرتدون الزي القومي·
واختاروا أكثرهم مداومة علي الاستماع لجهاز الراديو لرصد كل تغيير جديد في السلطة، حتى لا يقوم بالترحيب بممثل عهد بائد، ثم قاموا بترتيب العرائض التي ستقدم للسيد المشير والتي تراوحت بين التماسات للكشف عن مصير مفقودين من أيام انتفاضة شعبان، ومفقودين من قبل توقيع اتفاقية أديس أبابا، وطلبات للحصول علي تصديق لاستثمار أراض زراعية حكومية، وطلبات للحصول على إعانات بسبب العوز، وطلب من أجل تخفيض سعر سلعة السكر، إضافة لطلب قدمته الأرملة سكينة بت حاج أحمد لاستبدال ثلاثة جنيهات بالعملة الجديدة، لأنها كانت قد فقدت ذاكرتها في أيام تغيير العملة الوطنية مطلع العقد الأخير من القرن العشرين·
إضافة للعريضة التي قدمتها نورا الفتاة الجميلة المخبولة، طالبة تأخير موعد غروب الشمس يوم السابع و العشرين من شهر أغسطس، لإتاحة الفرصة لوردات صباح الخير لتبقى متفتحة ولإتاحة الفرصة لخطيبها الجندي الذي استشهد في أحراش الجنوب، كما ورد في إعلان رسمي، ليعود لأنها حلمت بعودته مرهقاً من وعثاء الموت في غسق أرجواني تطل من حوافه وردات نبات صباح الخير التي أصبحت الواحدة منها في حجم كرة قدم، في يوم في آخر أيام شهر أغسطس يمتد فيه غروب الشمس إلى ما بعد صلاة العشاء·
أثناء ذلك وقبل وصول وفد الترحيب، واصل السيد المشير تتبع إشارات الخريطة رغم صعوبة مطابقتها مع مواقع الأشياء أمامه، كما أن فراغ ذاكرته كان يجبره على بذل جهد مضاعف لمحاولة تثبيت الوقائع الجديدة في ذاكرته، وفجأة تعثرت قدمه بجذر ناتئ وسقط علي وجهه·
أدى ارتجاج ذاكرته إلى حركة مفاجئة للذكريات التي رسبت في قاع ذاكرته فرأى صوراً مذهلة في وضوحها ترقى لزمان غابر رأى فيها نفسه جالساً علي مقعد وثير في غرفة واسعة تطل على حديقة استوائية تغص بأشجار التاهيتي والجهنمية وورد الحمير، رأى نفسه غارقاً في حبات ضوء بدا له منتميا لزمان أكثر قدماً وهو يدفن وجهه في صفحات صحيفته الرسمية، وفيما تعالت أصوات ضوضاء المظاهرات في الخارج كان رجال أمنه الفزعون يتدافعون من حوله:
سيدي الرئيس، العصيان المدني يشل المدينة، فيكتفي بإبعاد الصحيفة قليلاً عن وجهه ثم يعيدها مرة أخرى، فيشاهد صورته التي ترقى إلى أول أيام الاستيلاء على السلطة، لأنه وخلافا لمزاعم أجهزة إعلامه التي ادعت بأنه جاء إلى السلطةمن خلال انتفاضة شعبية قضت علي حكم الأحزاب· وأن ممثلي الشعب ونقابات العمال ظلوا طوال ثلاثة أيام يتوسلون إليه لتسلم أعباء السلطة من أجل إنقاذ الوطن من الفوضى التي ضربت أطنابها فيه من أقصي جنوبه الاستوائي وحتى أقصى شمال إقليم الصحراء، حيث لا شيء سوي القيظ في نهارات طويلة تتفتت فيها حتى الذكريات وتذبل فيها حتى الأوراق البلاستيكية لنبات العشر·
وخلافاً للشائعات الرسمية التي كانت تطلقها أجهزة أمنه بأنه جاء إلى السلطة بوحي قرار إلهي، وأن الوطن كله حلم به ليلة الثورة المجيدة فيما الأولياء الموتى يزفونه علي إيقاع نحاس الشبالنكيت، وأنه نصب مثل الشيخ بدوي أبودليق على ككر من الذهب، في محاولة لردم حقيقة أنه وصل إلى السلطة لأنه كان الشخص الوحيد الذي استيقظ مبكراً صباح ذلك اليوم النائي، والوطن كله في حالة سبات جماعي، لا عن نشاط أو طموح، ولكن لأنه كان الوحيد ضمن كتيبة كاملة الذي تعاطى خمراً مغشوشة في الليلة السابقة لاستيقاظه المبكر التاريخي·
ففي الثلث الأخير من تلك الليلة ارتدى ملابسه العسكرية الكاملة وطاف شوارع العاصمة، فاكتشف أن الوطن كله كان نائماً ولم يشاهد سوي بعض اللصوص يتراجعون بغنائمهم بالقرب من كوبري النيل الأزرق، اقتحم القيادة العامة للقوات المسلحة، فوجد الحراس نائمين وقد سقطوا أرضاً علي وجوههم، تفحص وضع سقوطهم ليتأكد أنه كان عسكرياً، وفي غرفة جانبية عارية من الأثاث إلا من منضدة صغيرة وجد الضابط العظيم يخلد إلى نوم احتفالي في بركة من البول وحوله أربعة زجاجات شري فارغة ومنفضة سجائر غاصة بالأعقاب وجهاز راديو ملقى علي وجهه وهو يصدح بأغاني فرنسية من محطة في الكونغو، اعتلى ظهر إحدى الدبابات قطع بها الشوارع الخالية وعبر كوبري النيل الأبيض·