الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد
قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
شاهد صيادي الأسماك نائمين على شاطئ النيل الأبيض وشعر برطوبة النهر الدافئة مختلطة بعفونة السمك الميت تكاد تخنقه، وفجأة شاهد ومضات ضوء غريب تلمع من علي البعد فوق صفحة مياه النيل الأبيض، لم يهتم بها ولم يتسن له أن يلاحظ مطلقاً أنها لم تكن سوى آخر ومضات الحياة في الوطن الواقف علي أعتاب العصر الأول للجفاف·
اقتحم الإذاعة دون أدنى مقاومة من الحراس الذين كانوا نائمين في مقاعدهم، في الداخل لم يجد سوي مذيع واحد مستغرق في النوم أزاحه بقدمه وأمسك بالميكرفون فاستيقظ الوطن كله على صوته الأجش: انقلاب عسكري·
لحظة أن فرغ من ارتجال بيانه الأول شعر فجأة بفداحة ما فعل: إنه يقوم بانقلاب في الإذاعة دون أية سند من أية وحدة عسكرية، فجأة تناهى إلى سمعه صوت إطلاق رصاص، اقترب منه ثلاثة ضباط برتبة رواد وأدوا له التحية العسكرية، ارتبك لبرهة قبل أن يرد على أول تحية عسكرية بصفته رئيساً للدولة، بادره أحد الضباط الثلاثة : تمام سعادتك، تم تأمين الموقع، وتحركت قوة لتأمين القيادة العامة، وقوة أخرى لتأمين منطقة وادي سيدنا وقوة ثالثة اتجهت نحو مدرعات الشجرة، وقوة رابعة قامت باحتلال القصر الجمهوري·
شعر ببعض الاطمئنان رغم أنه عاني شعوراً غامضاً بأنه كان يقوم بدور معد سلفاً، غادر الإذاعة في حراسة الرواد الثلاثة ليستقلوا عربة مدرعة عبرت بهم الشوارع التي بدأت تدب فيها حركة حذرة، شاهد بعض المواطنين يهتفون باسمه وفي أسفل كوبري النيل الأبيض، شاهد صيادي الأسماك الذين تركهم نائمين لدي مروره فجراً، شاهدهم يسحبون شباكهم التي تلمع فيها أسماك البياض والبلطي الفضية، شاهد عشاق الساعة السادسة والربع يتسكعون في شارع النيل، يسيرون بخطى ثابتة كأنهم رجال آليون بمحركات زمبركية·
شاهد صورته التي ترقى إلى أول أيام الاستبداد بالسلطة، وقرأ في بريق عينيه المرهق، قرأ إشارات ارتباكه الأول وهو يتلقى أول تحية عسكرية داخل القصر الجمهوري ويتعرف على أفراد المجموعة التي ساندت انقلابه ويستمع إلى آخر تقارير الموقف الذي بات جلياً أنه أصبح في صالحه وبسرعة لم تخطر على بال أحد·
وحتى يتفادى احتمال تفاقم ارتباكه وهو يقرأ برقيات التأييد التي بدأت تنهال من كل أرجاء الوطن، وحتى لا تختلط أسماء المجموعة التي ساندته بأسماء آخرين، قام بإحصائهم سراً، لم تكن تربطه بهم معرفة وثيقة فقد كانوا في رتب عسكرية أقل منه كثيراً، كما أنه وبسبب شهرته كملاكم ومحطم أبواب لم تسند له طوال عدة سنوات أية مهام قد تتطلب جهدا ًعقلياً، إلا انه تذكر أنه التقى بعض أفراد المجموعة أثناء مغامرات ليلية: النقيب عثمان محمد زين العابدين، التقاه أثناء عراك ليلي قبل سنوات نجم عن إفراطه في الشراب·
فقد كان يعبر بوابة القيادة العامة مساءً أثناء تفتيش روتيني، وفي اللحظة التي عبر فيها البوابة بعد أن أدى له الحراس التحية العسكرية، توقف فجأة وتراجع بخطوات متعجلة إلى الخلف، ثم انهال على الحراس ضرباً، أطاح بضربة واحدة بسبعة من الحراس دفعة واحدة وحطم بندقيتين، ورغم أن الحراس ولوا الأدبار، إلا أنه طاردهم دون هوادة، وفجأة أوقفته قبضة يد قوية على كتفه، توقف رغم أنه كان يعلم أن بإمكانه تحطيم صاحب هذه الكف بضربة إصبع، لكنه شعر بنفوذها الواثق يجتاح كيانه كله، فعرف أنه نفوذ أخلاقي يفوق مقدرته على المقاومة فاستسلم دون شرط، وفجأة فيما كان النقيب يقوده من يده نحو مكتبه جلس أرضاً وانخرط في نوبة بكاء عنيفة·
الملازم أكرم محمد نور الدين، التقاه أثناء شجار روتيني في حانة، نشأ لأن النادل تأخر لأقل من دقيقة في تلبية طلبه، بضربة واحدة كان قد حطم سياجاً من القنا يحيط بالمكان، أزاح من طريقه ستة مناضد بزبائنها نصف السكارى وحطم عشر زجاجات ويسكي وكان على وشك تحطيم المكان كله، حينما شعر بقبضة يد واثقة تكبحه· شاهد خلفه شاباً صغيراً: الملازم أكرم محمد نور الدين، كان شاباً صغيراً لدرجة أنه لم يره في البداية بعينه المجردة، حتى أنه اقترب منه قليلاً ليري شاباً وسيماً يمد له يده مبتسماً، تردد قليلاً قبل أن يري المقعد الذي كان يحمله في يده يسقط لا إرادياً ويستسلم لليد التي قادته ببطء إلى الشارع حيث عربته الصغيرة التي كانت تسع بالكاد جسمه الضخم·
الرائد حسن عزالدين الطاهر، التقاه في الحفل السنوي للكلية الحربية بمناسبة تخريج دفعة جديدة من الضباط، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير حينما توقف المغني فجأة، وبدأ العازفون بالانسحاب، ودون أن يشعر وجد نفسه على المسرح، يحاول منع المغني وعازفيه من مغادرة المكان، لكن أحدا لم يستجب لمحاولاته، واستمر العازفون في جمع آلاتهم حينما أطاح بهم بضربة واحدة فاختلطت الأجساد مع الآلات التي عزفت لحنا نشازاً بعنف مفاجئ، ثم هبط من المسرح وبدأ الضرب في الصفوف الأمامية مراعياً تدرج الرتب العسكرية، حتى وصل طلبة الكلية الحربية الذين لم يهنؤوا بثياب التخرج الجديدة، فاختلطت ملابسهم بالوحل· حينما أوقفته ضربة كف واثقة على كتفه·
الخمسة الآخرون تذكر أنه التقاهم في مناسبات أقل أخلاقية : شجار في بيت للدعارة أقدم فيه على تحطيم باب غرفة وثلاثة مقاعد حينما وجد أحدهم سبقه في الدخول على الفتاة التي كان ينوي النوم معها، كمين دبروه لإفزاع زميل بتفجير لغم أرضي أثناء مرور سيارته·
شاهد صورته التي ترقى إلى أول أيام الاستيلاء على السلطة، رأى سمات خوف غامض ترتسم في ملامح وجهه فعرف في تلك اللحظة فيما أصوات المتظاهرين تصل إلى أسماعه مختلطة بالخطوات المتعجلة لمستشاريه وهم يجمعون مستندات فسادهم، عرف سخف مقولة أن التاريخ لا تحركه الصدفة والتي ظل يرددها طوال أكثر من أربعة عقود، لأنه بات واضحاً أمامه أن تاريخ حياته كله الذي صنع منه إعلام عصر الجفاف تاريخاً للوطن، كان في الواقع تحركه الصدفة المحضة، الصدفة وحدها هي التي جعلته يتزعم انقلاباً عسكرياً كان معداً سلفاً، وكان سيقع حتماً حتى لو ظل نائماً في ذلك اليوم الأغر كما وصفته القرارات الجمهورية·