منذُ ولادتِيَ وأوائلِ سنينِ طفولتِيَ كانَ أكثرُ الأسئلةِ تَحييراً وإحراجاً لِيَ هو ما اسْمِيَ وأصْلِيَ، أيْ اسْمُ قبيلتِيَ.
أنت هنا
قراءة كتاب الرفيقان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
حمد: ولتتخيّلْ يا سيدَ جاسر أنَّ أمَّكَ عندَما ولدتْكَ، لتتركَكَ على قارعةِ الطريقِ أو في مكانٍ ما لوحدِكَ عرضةً لِخطرِ الموتِ من الجوعِ والبردِ والخوفِ من المَجهولِ. ماذا تُراكَ فاعلٌ والحالُ تلكَ يا بشراً؟!.
جاسر (بانفعالٍ): إياكُمْ أنْ تعقدوا تشبيهاً خسيساً كهذا معِيَ، حذارِ....
حمد: عليكَ أنْ تُقَدِّرَ الحياةَ لغيرِكَ كما تُقدِّرُها لنفسِكَ. أنتَ كغيرِكَ من الكائناتِ الحيةِ. حتى الأشجارُ والنباتاتُ يَجبُ عليك أنْ تَحترمَ مشاعرَها.
جاسر: خذوا الحكمةَ ولو من أفواهِ المَجانينِ. أرجوكَ أنْ لا تكلِّمَ أحداً غيرَنا لئلا يبدؤونَ بالضحكِ عليكَ وعلى من ربّاكَ وعلينا جَميعاً من بعدِكَ.
حمد: لا يهمُّ الآخرونَ الآنَ، المهمُّ نفسُكَ أنْ تتعلَّمَ من نفسِكَ. هذا المسكينُ لولا نَجاحُ مُحاولةِ إنقاذهِ لكانَ الآنَ في عالَمِ الأمواتِ، ولنِلْتَ منّا جَميعاً ما لا ترضاهُ عيناكَ.
أبو جاسر: والآن ماذا تريدونَ تسميتَهُ؟، غضبٌ أو برقٌ أو رعدٌ أو مطرٌ أو ليلٌ أو خيرٌ أو شرٌ ..؟!.
حمد: إنَّ شكلَهُ يوحي بأنّهُ سيكونُ ذا قريحةٍ شعريةٍ قويةٍ نظراً لاتساعِ جبهتهِ وغزارةِ شَعرهِ ونافذيةِ عينيْهِ. وتيمُّناً بشاعرِنا العبقريِّ الموهوبِ الأستاذِ "زاهي بوسِعْدَة"، لذلكَ أودُّ تسميتَهُ كذلكَ على اسْمهِ أو "أبوالزهو"؛ وعلى اللهِ الاتكالُ.
أم جاسر: هذا أكثرُ الأسْماءِ لباقةً بهِ وكأنَّهُ قد وُلِدَ مكتوباً هذا الاسْمَ بينَ عينيْهِ. أنا مع حمد في إطلاقِ هذا الاسْمِ عليهِ.
جاسر: ودَدْتُ لو كنتُ مَحلَّهُ وألقى هذا النصيبَ من الحبِّ والتقديرِ والإعجابِ بشكلهِ، ولَمْ يكدْ يبلغُ يومَهُ الأوَّلَ. حتّى هذا الاسمُ الظريفُ لهُ .... حبذا لو أقدرُ أنْ أُغَيِّرَ اسْمِيَ إلى اسمٍ آخرَ غيرَ الذي أُنِطْتُ بهِ دونَ أخْذِ رأيِيَ لا عندما كنتُ صغيراً ولا عندَما كبرتُ ..."جاسر... هه"..
حمد: اشكرْ ربَّكَ، ذلكَ أحسنَ مِّما لو سَمّوْكَ "مُتعِبْ" أو "جُريب" أو "حُريب" أو "كُلَيب" أو حتى "غُريِّب"!.
أوَّلُ دمٍ
بدأَ "أبوالزهو" يتغذّى من البيتِ مثلَهُ مثلَ أيِّ فردٍ من أفرادِ الأسرةِ مِمّا ينتجُهُ الحقلُ من موادَّ غذائيةٍ وحيويةٍ بالإضافةِ إلى حليبِ أمهِ. ما هي إلا فترةٌ وجيزةٌ حتى أصبح يَجري ويركضُ في البيتِ وحولَهُ ومع الأولادِ ومع أمِّهِ "راكلي" في الذهابِ والإيابِ في العشيةِ والإبكارِ. كان أبوالزهو في طفولتهِ مُحبّاً للدّعةِ والمداعبةِ واللّحسِ واللّمسِ. أحبَّ الكرَّ والفرَّ وأحبَّ من يكرُّ معهُ ويفرُّ؛ وما أنْ يسقطَ على الأرضِ، بسببِ عثرةٍ أو زيادةٍ في سرعةِ العدْوِ، حتى ينهضَ ليستعيدَ أنفاسَهُ ويبدأَ شوطاً جديداً. بلونهِ البنيِّ الفاتحِ وعينيْهِ الصّافيتينِ وشعرهِ ورأسهِ وأرجلهِ وظهرهِ وبطنهِ وقوامهِ الرشيقِ كان كاللعبةِ التي تدبُّ فيها الحياةُ دقيقةً بدقيقةٍ. أوَّلَ ما يراهُ يثارُ في المرءِ الإعجابُ بهِ ويتقدَّمُ ذلكَ المرءُ إليهِ ليلمسَهُ على وجههِ أو رقبتهِ أو ظهرهِ أو بطنهِ، ليلمسَ ذلكَ الشعرَ الحريريَّ الملمسِ؛ وكان بعضُهُمْ من عشّاقِ الجمالِ الطبيعيِّ من يقومُ باحتضانهِ وحَملهِ وتقبيلهِ، حقاً كان آيةً في الجمالِ. وكلَّما تقدَّمَ بهِ العمرُ ازدادَ زهوُ شبابهِ ليصبحَ منظرُهُ قمّةً في إثارةِ الإعجابِ وفي حُسنِ القَوامِ وإشعاعِ الحيويةِ.
أصيبَ ربُّ العائلةِ أبو جاسر بوعكةٍ صحيةٍ شديدةٍ اضطَرَّتْهُ لِملازمةِ الفراشِ فترةً طويلةً، وكادتْ أنْ تقضيَ عليهِ. طلبَ من ابنهِ حمد أنْ يذهبَ إلى المدينةِ ليقومَ ببيعِ الحليبِ واللّبنِ الرائبِ والبصلِ في شوارعِ المدينةِ، بدلاً عنهُ. تردَّدَ حمد في بدايةِ الأمرِ زاعِماً أنّهُ لا يعرفُ المدينةَ جيداً واشتكى من خطرِ السّياراتِ وتَحرّشاتِ وإزعاجِ السّائقينَ، إلا أنّهُ أذعنَ لِمطالبةِ والدهِ وذهبَ إلى المدينةِ لذلكَ الغرضِ. أخذَ فكرةً عامةً عن الأسعارِ من والدهِ وعن كيفيةِ التعاملِ مع الزبائنِ وأيِّها أسلمَ الطرقِ ليسلكَها عندَ الذهابِ والإيابِ. كان على حمد أنْ يبدأَ رحلةَ البيعِ إلى المدينةِ في الصّباحِ الباكرِ، عادةً حواليْ السّادسةَ صباحاً لكيْ يصلَ إلى المدينةِ بعدَ حواليْ السّاعةِ ونصفِ السّاعةِ من المشيِ على الأقدامِ.
في أحدِ الأيامِ كانتْ أم جاسر تساعدُ ابنَها حمد في تَجهيزِ حُمولةِ البيعِ على ظهرِ أمِّ أبوالزهو "راكلي" حينَ وقفَ أبوالزهو جانباً. كانت رحلةُ الذهابِ إلى المدينةِ على وشكِ البدءِ عندما اتّخذَ أبوالزهو خطَّ سَيْرٍ موازٍ لأمهِ. حاولَ حمد في البدايةِ ثَنْيَ أبوالزهو عن مرادهِ إلا أنّهُ أصرَّ! على مصاحبةِ أمّهِ وحمد إلى المدينةِ. لَمْ تطاوعْ حمد نفسُهُ لِمواصلةِ ثَنْيِ أبوالزهو عن مصاحبتِهِما. بعدَ حواليْ السّاعتينِ وصلَ حمد وأبوالزهو و"راكلي" إلى أطرافِ المدينةِ وبدأَ حمد المناداةَ على البضاعةِ المكونةِ في معظمِها من الحليبِ واللّبنِ الرائبِ. كان الإقبالُ على البيعِ شحيحاً لأنَّ حمد كان لا يزالُ بائعاً جديداً على شوارعِ المدينةِ ومعظمُ الناسِ هناكَ لديهِمْ بائعونَ ثابتونَ لا يشترونَ من غيرِهمْ، حتى ولو بسعرٍ أقلَّ. لَمْ يتمكَّنْ من بيعِ سوى "بقلولةٍ" واحدةٍ (البقلولةُ هي اسْمٌ مَحليٌّ لوعاءٍ مَخروطيِّ الشكلِ ومصنوعٍ من الفخارِ الأسْمرِ أو البنيِّ اللونِ وتتسعُ البقلولةُ الواحدةُ إلى حواليْ اللترِ من السّائلِ الذي عادةً ما يكونُ من الحليبِ أو اللّبنِ الرائبِ).