أنت هنا

قراءة كتاب أبي لا يجيد حراسة القصور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أبي لا يجيد حراسة القصور

أبي لا يجيد حراسة القصور

تشكل المجموعة القصصية، انعطافاً نحو عالم داخلي، فهي تؤشر بعبثية لزلاّت الحياة قبل أي شيء آخر، وبقدر ما تنبش في واقعٍ نتفادى التحرش به، بقدر ما تشفّ لتكشف ضعفَ الإنسان حين تتطلب الحياةُ قوةً وصلابة، وجبروته حين تقضي الحاجةُ رفقاً وليناً.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1
» ثــوب فـي المطــــار
 
إلى روح أمـيرة الخُفّش
 
كانَ أن رأيتهنَ أوّل مرّة في صالة مطار أوروبيّ لا أذكر اسمهُ الآن، يلبسنَ الثّوبَ الفلسطينيّ، ويعبرن صالاته كفراشات تتقافزُ بغنجٍ ودلالٍ، كادَ قلبي يفرُّ من مكانه، وأنا أرى خيوطَ الثوب المشغولة من ربيع لا ينتهي، تمتدُّ على طول الجسد كخيولٍ لا يشكُمها أحد.
 
في تلك اللّحظة، شيءٌ ما جذبني نحوهن، لعلها صورةُ جدتي التي لم تعرف غير هذا الثوب يوماً، أو رائحةُ تراب القُرى، الّتي فاحت حولي لحظةَ أن استقرَ الثّوبُ بين حدقة العين والذّاكرة، أو ربما لونُ رغيف خبز ناضج ومنتفخ، فارق النّار للتوّ، واستقرَ في يمين صاحبة الثوب.
 
آهٍ من هذا الثوب.. منذُ زمنٍ طويلٍ لم أرَ أحدًا يلبسه، أنا نفسي لم ألبسهُ سوى في مناسبات معدودة، ربما لطول إقامتي في أوروبا، وابتعادي عن فلسطين كلّ تلك المدّة، منذُ زمن لم أشاهد امرأةً ترفلُ بثوب يرسمُ كلَ مفردات الحياة، ويطرّزها على أطرافه.
 
ظننتُ للوهلة الأولى، أن مصيرَ هذا الثّوب هو المتحف، أو الخزانة في أحسن الأحوال كما أفعلُ معه في بيتي، فاحتفظُ بواحد ورثتهُ عن أمي، وآخر أفكرُ في تطريزه لابنتي حين أزفّها ذاتَ ليلة، لكن حين رأيتهُ ذاك النهار ممتلئاً بأجساد تنبضُ بالحياة، شعرتُ بزهو لا يماثلهُ شيء.
 
تبعتهنَّ دون أن أعلمَ عنهنَ شيئاً.
 
من بعيدٍ، ظننت أنّهن طالبات فلسطينيات في طريقهنّ للمشاركة في مؤتمر أو معرض، أو ربما فتيات أوروبيّات، من أولئك اللّاتي اعتدنَ التضامنَ مع قضية لم يعد يعرفُ أحدٌ اليوم، إلى أين يمضي بها العمر! لكن حين اقتربتُ منهن أكثر، هالني ما رأيت، وصعقتُ وأنا أسمعهنّ يرطنّ العبريّة!!
 
لم أقوَ على متابعة المشي، تباطأت قليلاً، فشعرتُ بشيءٍ ما يدفعني من الخلف للحاق بهنّ، والاقتراب أكثر، وحينَ صرتُ بجانبهن، خرجت لي فلسطينُ من الذاّكرة وصفعتني بقوة.
 
إنهنّ مضيفاتُ شركة طيران إلعال الإسرائيلية!! ماذا يفعلن إذن بثوب أمّي وجدّتي!!
 
هزّني هذا الموقف بعنفٍ، كدتُ أصرخ في صالات المطار بأعلى صوتي، لكنّ هولَ المفاجأة لجمني.
 
فرّت دمعةٌ واحدةٌ من عيني بخجل، وجعٌ بعدها غصّ في حلقي أيضاً. لم أتمالك نفسي، بكيتُ دمعةً أخرى، وأنا أسمعُ أكثرَ من ستّين عاماً تضطربُ في داخلي، وتردّدُ في نشيدٍ واحد:
 
سرقوا أرضكِ فبقيتِ هائمةً..
 
سرقوا زيتونكِ فبقيتِ جائعةً..
 
سرقوا ثوبكِ فبقيتِ عاريةً..
 
لملمتُ انكساري، رفعتُ رأسي لأعلى، ولحقتُ بهنّ وأنا أصرخُ بأعلى صوتي: "أعيدوا لي أرضي وزيتوني وثوبي".
 
** * **

الصفحات