أنت هنا

قراءة كتاب أعوام ضائعة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أعوام ضائعة

أعوام ضائعة

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5
دماء في العام الجديد
 
كانت الليلة عابسة ظلما، والبروق تمزق آفاق السماء بصعقاتها المتعاقبة، مصحوبة برعود تقصف بين الحين والحين كأصوات مئات المدافع الثقيلة، والمطر ينهمر غزيراً، متدفقاً، كأنما شاءت السماء أنْ تصب على الأرض كل مياه البحار المتجمعة في غيومها السوداء الكثيفة، أو تلقي على دنيا البشر كل غضب الجحيم وشياطينها الساخطة. وكان النزلاء في فندق سميراميس، في أعلى حي القطمون في القدس، يحيون ليلة رأس السنة بالشراب، ولعب الورق، والغناء والرقص، غير عابئين بما في خارج الفندق من عناصر الشر الهائجة في السماء وعلى أديم الأرض.
 
كان في الفندق إلى جانب الرجال والنساء الساهرين، أطفال مع ذويهم يرقدون ناعمين كالملائكة، ولا يحسون بغضب السماء ولا بما يبيته غدر الأرض في تلك الليلة العبوس، الأحلام الجميلة تداعب أخيلتهم البريئة.
 
وكنت في الفندق مع زوجتي وطفلي الذي لا يزيد عمره على سبعة أيّام: طفلنا البكر، الثمرة الأولى لحبنا، الذي انتظرناه بشوق ولهفة، وانتظرته معنا أمي وجدتي، ليكون الفاتحة التي نرجوها لتجديد أسرتنا التي لم يعد فيها رجل سواي، كنت أنا الذكر الوحيد الباقي من الأسرة، وكانت الأسرة ستنقرض بعدي لولا أنَّ ولادة طفلي ذلك قد فتحت أمامنا باب الأمل في أن تستمر الأسرة، وتنمو وتزدهر مع الأيّام.
 
كنت في ذلك اليوم قد أخرجت زوجتي وطفلي من المستشفى، ولم أشأ أن أعود بهما رأساً إلى قريتنا (الطيبة)، القريبة من رام الله، بل أردت أن أريحها يومين آخرين في القدس ثم أعود بها وبالطفل إلى القرية.
 
وفي هذه الليلة لم أشأ أنْ أتعب زوجتي بالسهر ومشاركة المحتفلين بليلة رأس السنة، بل تركتها تأوي إلى الفراش قبل الساعة التاسعة مساء، وعدت أنا أسهر مع الساهرين، وبين الفينة والفينة أعود إلى الغرفة لأطمئن عليها وعلى الطفل، ثم أرجع إلى مكاني في السهرة.
 
كان العام يلفظ أنفاسه شيئاً فشيئاً، ويكاد يقترب من نهايتها، والليل الأسود ذو الأسرار العجيبة يتفرج شامتاً على أنفاسه المتسارعة نحو النهاية، وهو في الوقت نفسه يعلن المخاض الجديد بالعام للطفل الذي يتململ ململاته الأخيرة في رحمه، ليطل على الكون في غفلة الأعين التي أثقلها الكرى، وسكرة الرؤوس التي أثملها الشراب، وفي ثورة الرياح الهائجة، والبروق والرعود المتلاحقة، والمطر المنصب على الكون في جنون.

الصفحات