أنت هنا

قراءة كتاب أعوام ضائعة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أعوام ضائعة

أعوام ضائعة

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8
التمثال الذي لم يُقم
 
ما يزال ماثلاً أمام عينيّ، ذلك الموقف الذي كان قبل ستة عشر عاماً ونحن في الخندق معاً، وأمامنا أكياس الرمل، تطلُ من فجوة صغيرة في وسطها فوهة مدفعنا الرشاش من طراز (برن)، لكأنني أراه الآن: كلماته ترن في أذني مع لعلعة الرصاص المنهمر علينا من كل جهة في تلك اللحظة قبل ستة عشر عاماً: "يريدونها وطناً قومياً لهم؟ فلينتظروا إذن أن تكون مقبرتهم القومية، اليوم أو غداً، بإذن الله".
 
كنا آنذاك في خطوط النار الرهيبة عند محطة طول كرم، في اليوم الثالث عشر من أيار، والجيوش البريطانية تغادر البلاد تاركة أسلحتها وحصونها وقلاعها لليهود، ومخلفة في نفوسنا الحقد والنقمة عليها وعلى عهدها الأسود اللعين، ومع الحقد والنقمة الأمل الأشد مضاء من أسلحتها، والأمنع من قلاعها وحصونها، بوصول الجيوش العربية الجرارة الرهيبة التي ستقضي على العدو والذي زرعته بريطانيا على أرضنا. كان أملنا عظيماً جداً: يوم واحد وتدخل الجيوش العربية متدفقة من كل مكان، إنها تملك المدافع الجبلية، والطائرات والدبابات، في حين لا يملك العدو شيئاً من ذلك، ستدمره الطائرات العربية، وستسحقه الدبابات، وستجعل الجيوش الزاحفة كل أحلامه هباء منثوراً قبل أن يدور الأسبوع، ثم تنتهي آلامنا كلها، وتزول الغراس الشريرة القذرة التي قضت بريطانيا ثلاثين عاماً وهي تغرسها في أرضنا، وتتعهدها بالرعاية والسقي والحلم الطويل.
 
ويئز رشاشنا مزغرداً، ينقل الزغردات المتدفقة في صدرينا: رضوان وأنا، ونحن في الخندق من خلف متاريس الرمل نتلقى أزيز رصاص اليهود ونرد عليه فرحين بمعركة الكرامة التي نخوضها.
 
لقد تركنا مقاعدنا في مدرسة خضوري الزراعية ونحن في أواخر العام الأخير من دراستنا، وحملنا السلاح لأن الوطن كان أحوج إلينا في الخنادق مع الرشاش والبندقية منه إلينا مع الكتاب والقلم في المدرسة، وقد حالت الظروف النضالية الرهيبة دون استمرار الدراسة حتى نهاية العام. طلاب الصفوف الثلاثة كلهم الذين من أبناء المدينة حملوا السلاح ونزلوا إلى المعركة، لم يتخلف منهم غير أفراد قلائل ممن لا طاقة لهم على الصمود في قلب الخنادق وراء المتاريس، وقد توزعوا جميعهم بكل ما لديهم من سلاح على الخنادق، وخلف النوافذ والمتاريس يحمون أرضهم بالنار والحديد، وبقلوب أشدّ من النار والحديد، لا تعرف يوم الروع لينا ولا تراجعاً.

الصفحات