أنت هنا

قراءة كتاب البيضة السوداء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البيضة السوداء

البيضة السوداء

من الرواية:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9
أمـا أنت فلا، أنا وأنت جـزء لا يتجزأ من هـذه الطبيعة الخلابة الأبدية التي حولنـا (أرض لا أجمل ولا أحـلى) نبـاتات برية جرثوميـة تخبـو معظـم العـام، ولكـن لا تموت، إنهـا تستتر لوقـت لتزيدنا شوقاً إليها، ولتظهر بعـد ذلك بقوه أنـضر من المـرة الأولـى التـي ظهرت بهـا.. كالعكـوب(*).
 
أواه.. كـم اشتقـت إليـك..حلمـت بك أنـت والصبي..شممت رائحتكـم فـي كـل شيء، حتى بطعام هـذا السجن القـذر، اشتممتكـم (تنغصـت) لرائحتكم، أواه لـم أعـد أستطيع حتـى.. حتى الحلم، لـم يعـد يكفينـي، هـدني الابتعـاد عنكم وهذا الفـراغ، مـاذا تفعلين الآن، أبيـح لنفسي أن أسألك.. وبخجـل هـل تفكرين بـي، تتخيليني كمـا أتخيلـك..كيـف تعيشيـن الان.. مـع بعـدي كـل هـذه المـدة... كيـف هـي أمورك..أمـورك..أتخيـل نفسـي أننـي قد خنتـك مـع امرأة أخـرى..حيـزبونة بشعـة..آه أريد أن أراك عن حقيقـة..أتلمـسك (أتغـضض بغضاضتك).. مـرة واحـدة.
 
خمـس سنوات فصـلتني عنك..خمـس سنـوات عجـاف، كالتـي مـرت عـلى قـوم يوسف.. قحـط مـع فـارق بسـيط..أن مخازني ملأى بالذكـريات... والتـي لا تنضب.. خمس سنوات فصلتني عنـك قصراً.. مثقلـة تنضح بعـرق الأيام، المعجونة بالقهر اليومي لغربتنا..
 
فصلتني عنـك وعـن كـل شيء... كـل شيء.. الحيـاة.. الشجر..الربيـع.. الزهر.. الـورود البرية.. الميرمية... الشاي.. الـزعتر.
 
تـوقف هنـا الـزمـن..هنـا بالتحـديـد.. مـن أمـامي هنـا، وعنــد مـدخـل هـذا المكـان الحقيـر..كـان ذلـك عـند قـدومنا إلـى هنـا، لقـد تـوقف أمـامنا لحـظة الاستقبـال الكئيـب..الـرهيب..المتخـم بالحقـد والضغينـة..فـي نـظرات السجـانين.. لقـد توقـف امـامنا للحظـة.. وبشـكـل غيـر متـوقع وبـدون سابق إنـذار، بـدأت أراه..يغـادر.. غـادر..؟
 
أدار لنا ظهـره..بـكل سخـرية وشماتة.. كـلمـا تحـرك خطـوة إلـى البعيـد.. ازداد حـجما وكبـر.. كعفـريت المصبـاح فـي ألـف ليلة وليلـة.. ولكن قبـل أن يغادر انحنى قليـلا... ليتناول حقيقــة مهتـرئة.. مليئــة بـأسمال هـذا المكـان الأغبـر..... كـان ينتظـرنا.. هنـا بالتحـديد.. فـي هذا المكـان، ليغـادر هــو.. هـو وحـده.. لقـد وجـد من يحـل مكـانه هنـا.. وفـي معمعـان الحركـة والاستقبـال... !
 
التفـت إلينا والابتسامة الصفـراء..المحشوة بالشفـقة والسخـرية والشماتة معـا..كالتـي يحمـلها السجـانون والجنـود.. ملأى بالحقـد.. أخالها كلمـاته تتـردد صـداها رنـانة فـي آذاننا.. لم ينطـقه ولكـن صداهـا..ما تـردد عـلى مسامعنا أو علـى الأقـل مـا تخيـلت أننـي سمعته الآن.. احتفلـوا هنـا بفرصـة مغـادرتي لكـم... وبسرعة.. كحـد السيـف.. استمتعـوا بهـذا الفـراغ.. حتـى القطـرة الأخيـرة..حتـى أقصـاه.. حتـى تحيـن السـاعة...!
 
خمس سنوات، واللـهِ.. لا زلت أتذكـر وبقوه، تلك الابتسامة البلهاء عـلى وجوه زمـلائي كـلهم، وعـلى جـانبي فمـي.. أتذكرها لأنهـا آلمتني.. بعـد ذلـك، ولكونهـا بقيـت لمـدة طويـلة متحجرة علـى وجهـي..رغـماً عني.
 
بـدأنا بترتيـب الأماكـن التي سننـام بهـا..الكـل يحـاول أن يتمسـك برباطـة الجـأش.. إنّها السلاح السحري لغربتنـا.. يجب أن نكـون رجالا..أتذكـر الآن الأغنـية العـذراء..والعـزاء الوحيدة.. أقصـد الاحتفـال الـوحيد.. التي تتـردد صداها فـي أرجاء الغـرفة (القاووش) والتي بدأها مازن.. بصوت أشبـه بالندب.. صوته المفعم بالأسى والحـزن الداخلي الذي كـان يمزقنا.. راجعين يا هوا راجعين.. يـا زهرة البسـاتين.. آه أنني أتذكـر وبوضـوح.. اليـوم الثـاني لقدومنـا..عـانينا جميعا من صداع حاد جماعي كأنها عدوى طاعونية.. فيروسية.. فيروزية.. لقد أفقـت فـي اليوم التالي وكلمات الأغنيـة مـا زال يتـردد صـداها فـي رأسـي.
 
إننـي الآن أشـكّ بمـا كانت فيروز تفـكر به حـين رددت كـلمات هـذه الأغنية وبصوت أيضاً ذي بحة ملائكيـه..هل كانت تقصدنا نحن.. تعزينـا نحن.. فقـط تطايـرت الكلمات في السماء كموجات الـراديو.. ليلتقطها المتلهـف لسماعهـا.. الأقدر عـلى ترجمتهـا لمشـاعر جياشه...تـأتي بعد ذلـك كحجارة ضخمـة، ثـابتـة فـي مكانها.. فـي معبـدها الأزلي.. متحجـرة فـي أعماقنا.. كحجـارة هـذه الصحراء المحيطة بنـا... سـوداء... كحقـل البراغيـث هـذا.. الممتـد إلـى خـط الأفق.. تغطـي رمـاد هـذه الصحـراء السـرمدي.. ونحن مـن هنـا..مـن مركبنا هـذا تائهين فـي سـديم صمتهـا الأبـدي.

الصفحات