ي هذا الكتاب صورة قلميّة للأمير عبد الإله، الوصي على عرض العراق لمدة ناهزت عقدين من الزمن، حتى حدوث انقلاب الرابع عشر من تموز سنة 1958 في بغداد، كتب هذه الصورة القلميّة السكرتير الخاص في الديوان الملكي العراقي "عطا عبد الوهاب"، المعار من السلك الدبلوماسي إل
قراءة كتاب الأمير عبد الإله صورة قلمية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الأمير عبد الإله صورة قلمية
الصفحة رقم: 5
وكنت محاصراً في حياتي العاطفية· فزمن الأربعينات لم يكن قد انفتح بعد على شيء من العلاقات الحرة بين الجنسين، مهما كانت تلك العلاقات طبيعية، أو بريئة، أو حتى سطحية· ثم أنني كنت أفرض على نفسي مثلاً أخلاقية تجعل من الترويح تهتكاً، ومن المتعة المتسترة فجوراً ينخر في العظام، عظامي وعظام الناس· وإذا بالحب المجنح يرف من حولي، فأرخي برأسي الحائر وقلبي المعذب على رياشه المزوقة بأماني العشق والاستقرار وتحقيق الذات· ومن هنا جاءت بداية الفكاك من حصار التقشف العاطفي والتواكل المادي، وكان التغيير في مسلك عملي من القضاء إلى الخارجية كالانفجار الذي حطم أسوار الحصار الثلاثي الذي كنت فيه فكسر جميع الأغلال ·
غادرنا الوطن وأنا مشحون بفكر خاص : فكر فتحته براءة الصبا على قبول المستحيل، ووجّهته مطالعات الكتب في بواكير الشباب نحو الإيمان بالمساواة المطلقة بين الناس، مساواة ترفض نعتها بالطوباوية ولا تقر بوجود أي فارق بين بني البشر يميّز هذا عن ذاك· وكان ذلك الفكر الخاص يتأثر من حيث لايدري بمجموعة من أصدقاء التلمذة، وعلى رأسهم صديق العمر وآية الوفاء محمد زينل، وكانت تنشد الإصلاح بمفهوم تجريدي وتتلهف إلى تغيير الأوضاع، كل الأوضاع، فهي جميعاً أوضاع فاسدة، فتصب تلك المجموعة عامدةً في نهر التطرف الجارف· فكرٌ كنا ننعته بالتقدمية لأنه يؤمن بحتمية التقدم إيماناً تاماً لايأخذ بتجارب التأريخ ولايسترشد بمنطق الأشياء فهو إيمان منزّه عن الشك وعن الخطأ معاً، ولايرتضى مراجعة الذات في شيء لأنه إيمان حسم كل شيء وقعد ينتظر النتائج انتظار المطمئن لمعادلات الأرقام· فعندما ركبنا الباخرة نمخر بها أوقيانوس الأطلسي كان في ذهني تصور ثابت عن نظام الدولة التي اعتُمدتُّ للعمل فيها· ولم يكن ذلك التصور حسناً بالطبع· كان صديقي الوحيد في الباخرة ساقي الحانة الزنجي أتبادل معه أحاديث المعاناة الإنسانية لمحنة العبيد بمجتمع السحنة البيضاء ولمآسي الفقر في دنيا الأغنياء· والفقر من هواجسي التي طالما عذبتني في مطلع التفتح على الفكر التقدمي المتعصب، فكنت أغادر البيت، وكان يعدّ في الصليخ قصراً منيفاً في مقاييس تلك الأيام، لأسير وحيداً على شاطئ دجلة وهو بعد شاطئ ريفي لم تمتد إليه جعجعة العمران، أتغنى بجمال الغروب وأعنّي نفسي بما أشاهده من مظاهر الفقر في الأكواخ المتناثرة هناك، وأمنّيها، نفسي، بالمجهول الجميل·
وطئنا جزيرة منهاتن يقودنا ساقي الحانة الزنجي إلى المستقبلين من زملاء العمل، وفي الحال اُخذنا بالمدنيّة البادية في المباني والطرقات والأضواء، ولكني أنا شخصياً لم أكن مأخوذاً بها إلا على أنها قشرة فاتنة تبطن جوهراً مريضاً· ومضت الأيام دون أن تزعزع المظاهر الخلابة، اللطيفة بذاتها، شيئاً من تصوراتي الدفينة، فكنت أتعمد في البداية إخضاع ماأرى لنظريات ذلك الفكر الخاص الذي حملته معي في ذهني، عزيزاً عليّ، وأحلل ظواهر الأمور على هديه مقتنعاً بصواب التحليل مصراً على رفض المراجعة وإعادة النظر مطمئناً إلى رسوخ تصوري بشكل لايقبل الجدل·
وتمر السنين وأنا منغمس في عملي الرسمي ودراستي الخاصة ومنغمس في الحياة أيضاً، والحياة هناك واسعة الأطراف، شديدة الفتنة، كثيرة الإغراء، متعددة الجوانب، لطيفة المعاشرة كأنها حلم لايسلّم نفسه للمشتهي· ونحن نُقبل على هذه الحياة بشكل يوفّق بينها وبين العمل والدراسة، ننهل من حيوية الشباب ونرحل في مغاني تلك القارة المترامية، فنشاهد ونتأمل ونتحدث ونحلل إذ نغترف من مباهج الدنيا بملء اليدين· والتجارب تتراكم في ذهنٍ أخذ بالتدريج يقبل بمراجعة ما يختزنه من أفكار، بعد أن هدأت نزوة التطرف فيه وابتعد عن ضغوط الأصدقاء، واقترب من ملكة التفكير الموضوعي التي تبصر الأشياء كما هي دون أن تلونها نزعة المخالفة من أجل المخالفة أو لوعة التحرّق لآلام المحرومين أو متعة الإنسجام مع رأي الانشقاق، وهو في العادة رأي ينشر المخافة منه فكأنه من أدوات الإرهاب الفكرية، وطالما أدى بالمقربين من حلقته إلى إيثار السلامة ونوال الثناء، على الخصومة في الجدال وتراشق الطعون· ولاأدعي أنني في حياتي اليومية في ذلك الإطار الجديد كنت دائماً على وعي بإخضاع مشاهداتي وتجاربي إلى مطارحات فكرية· كلا· ولكن، كانت المشاهد تترى، فهي أمام الناظر اليقظ في كل مكان، تثير فيه الانتباه، فالحيرة، فالمقارنة بين واقع يراه ورأي يتشبت به؛ بين نظرية في موضع التطبيق اليومي العملي ونظرية في بطون سجّل الفلاسفة والمصلحين· كنت ألاحظ أن الديموقراطية في ذلك النظام الرئاسي تعمل بكل مؤسساتها عملاً حسناً نسبياً رغم ما في النظام من ثغرات، وصمام الأمان الواقعي من بعض آثار العيوب في تلك الديموقراطية يكمن في مبدئها الدستوري الذي يأخذ بالرقابة والتوازن بين السلطات الثلاث· وكنا نتحدث في هذا، ضمن أحاديثنا المتواصلة عن مسألة الإصلاح في العراق، نحن مجموعة الزملاء من رفاق العمل الرسمي وطلاب البعثات· ولاأنسى حديثاً لي مع الصديق طلعت الشيباني الذي كان يعد أطروحته عن الدستور العراقي في جامعة نائية وطالما التقينا في نيويورك، فقد كاشفته، وهو من أنصار الرأي التقدمي في مجموعة أصدقاء بغداد، بما أجده من تناقض بين آرائنا النظرية وما أشاهده من واقع ملموس في الحياة العملية في بلاد غربتنا· قال طلعت : أنا أيضاً اكتشفت ذلك، ولكنني لا أستطيع المصارحة به (استوزر طلعت في عهد قاسم)·