ي هذا الكتاب صورة قلميّة للأمير عبد الإله، الوصي على عرض العراق لمدة ناهزت عقدين من الزمن، حتى حدوث انقلاب الرابع عشر من تموز سنة 1958 في بغداد، كتب هذه الصورة القلميّة السكرتير الخاص في الديوان الملكي العراقي "عطا عبد الوهاب"، المعار من السلك الدبلوماسي إل
قراءة كتاب الأمير عبد الإله صورة قلمية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الأمير عبد الإله صورة قلمية
الصفحة رقم: 6
كانت المقارنة بين نظم الحياة المختلفة السائدة هنا وهناك تشغل حيّزاً من الأحاديث التي تدور بين المقربين سواءً من ذوي الميول الفكرية المتقاربة أو المتباعدة· ومحور الأحاديث يدور حول سؤال معين : ماهو النظام الأصلح للعراق في الوضع الذي كان قائماً فيه؟ والمجاذبة في الآراء تجري بين ماقرأناه في الكتب من نظريات وبين مانشاهده من تطبيقات في الحياة، أو ما نسمعه عن تلك التطبيقات : بين الماركسية والديموقراطية؛ بين نظام رئاسي نشهد تطبيقاته فعلياً، وآخر پرلماني ينتشر في أورپا الغربية خاصةً، وثالث يطبق في الاتحاد السوفيتي فنقرأ عنه ونسمع ويخيّل لنا أنه النظام الأمثل لحل مشاكل الإنسان والمجتمعات والدول· وكنا قبل مغادرة الوطن نميل إلى هذا النوع الثالث من الأنظمة، ولاتكاد تشوب قناعاتنا عنه شائبة· ولكن قناعاتي أنا أخذت، بعد سنين من الإقامة، الحرة فكرياً، في خارج البلاد، تتقلقل وتتململ وتكاد تتزعزع· حدث هذا شيئاً فشيئاً إذ تتراكم المشاهدات والمقارنات، والقراءات أيضاً، فتعرض أمام الإدراك السليم صوراً جديدة لاتخطئها العين ويستسيغها الذهن فتولد بذلك جنيناً لقناعة جديدة· وذات يوم فاجأتنا صحف العالم بنشر خطاب قيل إن خروشوف ألقاه في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي· خلنا في الابتداء أن هذه خدعة من خدع الدعاية تلجأ إلى التحريف بل إلى الاختلاق سلاحاً في الحرب الباردة المحتدمة بين العملاقين· وكان الخطاب طويلاً جداً، وصريحاً جداً، كشف فيه زعيم الشيوعية الحاكم مآسي النظام في العهد الستاليني كشفاً مفصلاً ومذهلاً· ثم اتضح أن الخطاب صحيح، وبدأت آثار التصحيح تظهر في تلك البلاد فتشمل إزالة آثار ستالين نفسه· أحدث ذلك الخطاب في ذهني تأثيراًعميقاً وأدركت فيما بعد أنه كان نقطة التحول في قناعتي، وخلّفني الذهول الفكري الناجم عما كشفه الخطاب نهباً للحيرة والتساؤل وإعادة النظر· وكان موئلي الأخير في النزاهة الفكرية التي تملي على المرء قدراً غير قليل من الشجاعة ليصارح نفسه على الأقل بقناعةٍ أخرى تكاد تفرضها الأحداث فرضاً· عندئذٍ شعرت أن ذلك النظام الأمثل الذي عوّلنا عليه طويلاً فقد مركزه الأول في قائمة الأفضليات·
في عام 2 5 9 1 جاء إلى أمريكا الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله الوصي وولي العهد، وكانت زيارتهما رسمية وقيل أريد لها أن تتم قبل أن يتوج الملك في العام التالي ويتسلم سلطاته الدستورية· كنت قبل مجيئهما أحمل هماً كبيراً· فالصورة التي حملتها معي عن الملك أنه صبيّ غرّ، مغلوب على أمره، وقد لايرى اليوم الذي يتوج فيه؛ والصورة التي حملتها عن الأمير أنكى بكثير، فقد كنا نقول عنه في مجموعتنا، مجموعة الغلاة، في بغداد، أنه تآمر على العرش لكي يجلس عليه وأنه لايعرف من شؤون الدنيا إلا ملذاته حلالها وحرامها، وأنه ألعوبة طيعة بيد الغير· كنا نصبّ كل غضبنا من أوضار الوضع العام على رأسه· لذلك حين تخرجنا في كلية الحقوق سنة 4 4 9 1 ودعينا إلى حفلة التخرج لم نحضرها نحن مجموعة الغلاة لأن هذا الذي نكرهه هو الذي يسلمنا شهاداتنا العلمية· فكيف سأتصرف خلال هذه الزيارة الملكية الرسمية وأنا من موظفي الدولة؟ قررت مع نفسي أن أتفحص كلا الشخصين من بعيد وأن أمحصهما بتجرد لأرى ما تكون عليه النتيجة التي سأتوصل إليها· لم يكن الاختبار صعباً بالنسبة للملك، فقد كشفته شاباً متعلماً، ذكياً، دمثاً، بسيطاً، سريع البديهة، متفتح الذهن، وممتلئاً بآمال الخدمة العامة دون جعجعة، مع هوايات متعددة كالرياضة بأنواعها والمطالعة في فروع معينة وغيرهما· إنه باختصار فتى يدخل القلب رأساً، وقد عجبت من نفسي كيف أن حقيقته البيّنة للعيان تخالف تماماً ماتلوكه الإشاعات عنه فترميه بالغباء وانعدام الشخصية والعجز· على أن حيرتي النفسية لم تكن تجاه ذلك الشاب الذي لم يكن قد تولى بعد شيئاً من المسؤولية· حيرتي إنما هي تجاه خاله المهيمن عليه، الذي لايدخل إلى القلب رأساً· أخذت أراقب تصرفاته من بعيد، وأحصي عليه حركاته وسكناته وأنا في الظل، وكبار الموظفين يتهالكون عليه، ويتلعثمون إذا سأل سؤالاً ويداورون في أجوبتهم، وكان الرجل قوي الملاحظة، كثير السؤال، محباً للنقاش، فلم تكن ترضيه أجوبة المحيطين به من الكبار· وفي خلال فترة وجيزة شعرت أنه هو الذي كان يراقبني إذ يجدني ألوذ بالانكماش· كان إذا لم يقتنع بجواب وجه السؤال إليّ فأجيبه بصراحة وبساطة بلا لف أو دوران غير عابئ سلفاً إن كان جوابي يروق له أم لا· والغريب أن جوابي كان يروق له في الغالب، فإذا لم يرق له لاينفك يناقشني ويوغل بأسئلته طمعاً في الحصول على إجابة مقنعة لوجهة نظره· وأخذ يفتش عني إن لم أكن موجوداً، وهو لايعرف من أكون· لم يكن يعرف أنني شقيق أحد وزرائه المقربين إليه· ولم يعرف ذلك إلا في الايام الأخيرة من الزيارة بعد أن سأل عني من عضو في الوفد· كنت أراجع نفسي وأنا أجد أن ثمة صفات جيدة في هذا الرجل وكنا نظنه مجرداً عنها وعن كل صفة حميدة· وما لبثت الصورة القديمة عنه أن اهتزت في ذهني· ولكنني كنت أقول لنفسي إن هذا الذي أشاهده لايكفي لتغيير قناعتي وأن هناك أعماقاً أخرى يجب أن تسبر· وذات مساء اتصل بي هاتفياً عميد الجو جسّام الشاهري، الطيار الخاص وكان من أعضاء الوفد الزائر، وقال إن جلالة الملك خرج مع عبدالله بكر وأن سمو الأمير يدعوك مع زوجتك إلى عشاء مختصر في مطعم يترك لك اختياره· اخترت مطعماً إسبانياً معروفاً في منهاتن إسمه فلامنغو، ويعزف فيه عازف غيتار شهير، ويقدم طبقاً يجيد طبخه هو البايلاّ· (إن صورة الغلاف التقطت تلك الليلة في ذلك المطعم، ويظهر معنا العميد جسّام في أصل الصورة وهي موقعة من الأمير بتاريخ 1/9/12 5 9 1)· في تلك الليلة تبسط الأمير في أحاديثه وكان يحب رواية ذكرياته عن أيام صباه في الحجاز، وعن الملكة عالية، شقيقته أم الملك، وكانت قد توفيت قبل سنتين وهو لايذكرها إلا وتترقرق في عينيه الدموع، وإذا به يسألني فجأة : ما هو رأيكم بي أنتم الشباب؟ فلم أتردد· أجبته فوراً: نحن نعتقد أنك إنسان لئيم؟ فقال بحدّه: أنا لئيم؟ لو كنت لئيماً فكيف أوافق على تعيين موسى الشابندر سفيراً للعراق في واشنطن ؟ (كان الشابندر وزيراً للخارجية في حكومة رشيد عالي الكيلاني سنة 1 4 9 1، وبعد خروجه من السجن أعيد إلى السلك الخارجي وعين أولاً وزيراً مفوضاً في الشام ثم نقل سفيراً إلى أمريكا، ولم يكن قد التحق بعمله الجديد بعد عند القيام بالزيارة الملكية)· وظل الأمير يردد : أنا لئيم ؟ كيف إذن أعيد جماعة رشيد عالي المشتركين في حوادث 1 4 9 1 إلى الوزارة؟ (وكان يعني علي محمود الشيخ علي، ومحمد علي محمود، ومحمد حسن سلمان والشابندر نفسه وغيرهم ممن سجنوا بعد الحركة ثم عادوا بعد ذلك إلى عالم السياسة وتولوا وزارات مختلفة)· قلت له : أنت سألتني ما هو انطباعنا نحن الشباب فأجبتك بصراحة· لم أزد ولم أتوسع· وكنت أظن أن غضبه سيتفاقم· ولكنه طوى ذلك الحديث سريعاً، وعاد إلى تبسطه وفكاهاته وذكرياته· وكانت ليلة لطيفة· ولكن سؤاله وجوابي ومناقشته للجواب دعتني إلى إعادة النظر في شخصية الأمير· وعندما غادر أمريكا كنت من الشجاعة مع نفسي أن أغيّر رأيي فيه كشخص، إذ لم تسنح الفرصة للتعرف على جوهره الآخر كرجل عام· على أنه حين غادر لم يفته أن يعبّرلي عن مدى توددّه لي وذلك بأن طلب بأن أكتب له على عنوانه في لندن، وأعطاني العنوان، وقال : أرسل لي نسخاً من التصاوير الفوتوغرافية التي تلتقطها وتجدها حسنة، ذلك أن هواية التصوير كانت نقطة التقاء بيننا، وكان اطلع على بعض إنتاجي في تصوير الطبيعة وأعجب به·