ي هذا الكتاب صورة قلميّة للأمير عبد الإله، الوصي على عرض العراق لمدة ناهزت عقدين من الزمن، حتى حدوث انقلاب الرابع عشر من تموز سنة 1958 في بغداد، كتب هذه الصورة القلميّة السكرتير الخاص في الديوان الملكي العراقي "عطا عبد الوهاب"، المعار من السلك الدبلوماسي إل
قراءة كتاب الأمير عبد الإله صورة قلمية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الأمير عبد الإله صورة قلمية
الصفحة رقم: 9
وفي تلك الآونة التي خدمت فيها في لبنان، وناهزت سنتين ونصف السنة، اشتدت الخصومة بين نظام مصر والعراق، وكان للناصرية في الساحة اللبنانية القدح المعلّى، فهي تصول وتجول في الأزقة، ويتعالى صوتها على غيرها في الصحافة، وتتغلغل في المنظمات، وتمتد إلى الأروقة السياسية ونوادي المجتمعات· فكان مما يلفت نظري وأنا أتابع تلك التطورات في جيشانها المتعاظم يومياً أن الخصومة مع النظام العراقي كانت تخرج في كثير من الأحيان عن أصول الخصام السياسي والخلاف العقائدي· ثم أخذتُ أمتعض وأنا أكتشف الكذب والمغالطة والافتراء والتأليب في حملات دعائية على بلد أنا أحد أبنائه · ولعل مما يحز في نفس المرء وهو خارج وطنه أن يسمع من يطعن فيه وإن صدقاً، فكيف إذا كان الطعن كذباً في بعض الحالات ؟ عندئذٍ يكون الامتعاض مشروعاً· وعندما تفاقم الافتئات على الحقائق وتمادى التدنيس لحرمة الصدق وكاد ينغلق باب المحاججة المنطقية أمام المكالبة الغوغائية انقلب امتعاضي إلى استياء شديد· وهو استياء ينطوي على الشعور بالعجز أيضاً أمام حلبة لايتكافأ فيها المتصارعون ولايتجرد فيها المحكّمون لأنهم أصلاً من أنصار هذا الفريق أو ذاك، ولايتمالك فيها مشاهدو النزال أنفسهم، وأكثريتهم الساحقة من المصفقين لفريق بعينه، فينحدرون إلى درك الشغب المهين، وتنهزم أمامهم الأقلية المطالبة بتطبيق النظام، لاتلوي على شيء·
في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر انعقد في بيروت مؤتمرلقمة عربية حضره ملوك ورؤساء الدول العربية جميعاً· وكان المفروض أن يحضره الرئيس عبدالناصر شخصياً ولكنه اعتذر في اللحظة الأخيرة لضرورة بقائه داخل مصر، فمثله سفيره في بيروت، عبد الحميد غالب، وكان يعتبر مندوباً سامياً هناك· وكان الوفد العراقي برئاسة الملك فيصل الثاني وعضوية أحمد مختار بابان نائب رئيس الوزراء وعبد الله بكر رئيس الديوان الملكي وآخرين بضمنهم سفير العراق في لبنان· وعهدوا إليّ مهمة العمل سكرتيراً للوفد، فحضرت جميع الجلسات بهذه الصفة· كنت ألاحظ أن الملك فيصلاً كان يتابع المناقشات بعناية وانتباه تامين ولكنه لايشارك في المناقشات، بل يتداول أحياناً مع بعض أعضاء الوفد الجالسين من خلفه· أما الملك حسين الذي رأس الوفد الأردني، وكان يضم بعض الحزبيين المتطرفين، فقد كان يتداخل في المباحثات بحيوية وحماس، وقد ألقى في الجلسات خطباً ارتجالية متعددة دلت على تمكنه من ناصية اللغة وعلى تمسكه باتجاهه القومي وهو بعد شاب يافع لم يمض على توليه العرش سوى ثلاث سنوات· وكنت ألاحظ أيضاً على أعضاء الوفد العراقي، مما يرتسم على وجوههم من خلجات وما تندّ عنهم من همسات، أنهم يتضايقون من المزايدة الكلامية في الخطب الرنانة وينفرون من ركوب الموجة ويعتبرون الانسياق معها نوعاً من الرياء السياسي الذي ينبغي التنزه عنه ويعتقدون أن سبيل الحكم الصالح هو مصارحة الناس بوقائع الامور كما هي وبواقع الحال في البلاد العربية· وعندما دنا موعد اجتماع الجلسة الختامية انتحى بي أحمد مختار بابان جانباً، وهو يعرفني موظفاً في وزارة العدلية التي كان يشغلها في سنة 5 4 9 1 وأعجب بأسلوب كتابتي آنئذٍبصفتيملاحضاًللتحرير في الوزارة، كما أعجب بموقف صريح لي معه يناقض موقفه مما أوردت تفاصيله في (سلالة الطين (1))وقال لي : أريد منك أن تتفرغ بعد ظهر اليوم لكتابة كلمة ليلقيها صاحب الجلالة في الجلسة الختامية على أن تعرضها عليّ مساءً قبيل افتتاحها· وزودني بتعليمات الحكومة لكي أسترشد بها في الكلمة، وتتلخص بأن العراق مع مصر ومع الإجماع العربي في كل ماتقرره القمة· اختليت مع نفسي، وأخذت أكتب مبيحاً لنفسي أن أعبّر عما يجول في خلدي ومايجول في نفوس أبناء جيلي، ولم أتمسك حرفياً بعمومية التوجيهات وحدها بل طورت الخطاب إلى تسمية الأشياء بأسمائها وإلى تحديد المطالب العادلة التي كانت مدار الحديث في محافل كثيرة خلال تلك الأزمة الخطيرة · عرضت المسودة على ذلك الرجل المهذب، فقرأها بإمعان ، ثم قال : هذا خطاب طويل ونحن نريده مختصراً ، والذي كتبته جميل وأنا أشاركك فيه، ولكن الذي سيلقيه هو الملك، والملك عندنا دستوري، يملك ولايحكم، فلا ينبغي له أن يقرأ مثل هذا الكلام· لابأس أن يلقيه أحد الساسة· أنا شخصياً كنت سألقيه· ولكن ليس الملك· ثم طوى أوراقي، وكتب بنفسه مسودة مختصرة لاتخرج عن نطاق التعليمات المقتضبة التي زودني بها، وكانت تلك الكلمة هي خطاب الملك الوحيد في تلك القمة ·
ظلت ترن في أذني كلمة بابان وهو يقول : الملك عندنا دستوري· أحسست أن هذه كلمة حق يراد بها باطل· وأنها تمثل مفارقة تعيسة إذ أن البنود الأساسية المتعلقة بالحريات السياسية خاصةً لم تكن مطبقة تطبيقاً حسناً مما كنا نتمناه أحياناً، نحن مجموعة الزملاء في بيروت، عند حديثنا عن الإصلاح السياسي في العراق · ولكني كنت أقول في نفسي : إن التمسك بمبدأ دستوري، مهما كان هذا التمسك منطوياً على المغالطة، خيرٌ من عدم التمسك بشيء إذ قد يحين الوقت لاتخاذ مثل هذا التمسك الشكلي كلبنة أولى في بناء توجّه متدرج نحو تطبيق المبادئ الدستورية الأخرى بشكل سليم ·