في كتابه "مذكراتي نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية"؛ يكتب المؤلف في خاتمة مؤلفه هذا: "لقد حرصت في تدوين مذكراتي هذه على تسجيل ما قمت به بنفسي، أو اطلعت عليه بصورة مباشرة، بحكم اضطلاعي بمناصبي ومسؤولياتي فقط، دون سواه، توخياً للحقيقة المجردة، وتفادياً
أنت هنا
قراءة كتاب مذكراتي نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مذكراتي نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية
الصفحة رقم: 4
مبادىء عامة
كانت تشغل أفكاري وأنا حدث السن ثلاثة مبادىء عامة:
1- العروبة·
2- التقدم الاجتماعي في الشرق عامة، وفي البلاد العربية خاصة·
3- التحرر الفكري من القيود والتقاليد الموروثة·
1- وقد يكون حرصي على العروبة أكثر من غيرها لأني أنتمي إلى أسرة عربية أصيلة، وكنت أرى أن للعروبة رسالة يجب أن تقوم بها في الشرق الأوسط خاصة وفي الحضارة العالمية بوجه عام؛ لأن للعروبة لغة دقيقة سامية تصلح لأن تعبّر عن الرأي البشري بجميع أشكاله وتطوراته، فيجب أن تساير في تقدمها اللغات العالمية في المستحدثات والحاجات الجديدة· وشدة شغفي بالعروبة جعلتني أشتغل بالسياسة وعمري لم يتجاوز السادسة عشرة؛ لأني كنت أعتقد أن شعباً كانت له تلك الحضارة الزاهية، التي جعلته في مصاف الشعوب الممتازة في البشرية، حرام عليه أن تنطفىء شعلة نيرانه، الوهاجة فيما مضى، أو يصيبه الوهن في نشاطاته· فبوسعي، على ما أعتقد، أن أدفع دولاب تلك الحضارة فأجعلها صالحة لتأمين الحاجات البشرية الجديدة بما يحفزني إلى العمل بجد وإخلاص، لأتمكن من إسداء خدمة طفيفة تضاف إلى الجهود الجبارة التي قام بها السلف في سبيل إعلاء شأنها· فحضوري المؤتمر العربي الأول المنعقد في باريس سنة 3 1 9 1، وتعرّضي لملاحقة الطغيان التركي بقصد محاكمتي والحكم عليّ بالإعدام، ثم اشتراكي بجمعيات عربية سرية كجمعية الفتاة والعهد العربي· كل هذا كان بدافع كنت أعتقد بضرورته، وأنا لم أكمل بعد تحصيلي العالي ولم أتجاوز العشرين سنة من عمري·
2- أما اعتقادي بضرورة التقدم الاجتماعي في الشرق وفي البلاد العربية بصورة خاصة، فكان اعتقاداً ناشئاً عما كنت أشاهده من خمول عام وجهل متفشٍّ وتعصب ذميم، كان كالسيل يجرف أمامه ما بقي من ذلك التراث العربي الحي؛ إذ كنت أخشى ألا تمضي مدة على استحكام ذلك التقهقر بذلك المجتمع، حتى تستسلم البلاد للجمود والموت ثم تتعرض للاستسلام للأصلح والأقوى في الحياة وهو العنصر الأجنبي؛ فيدخلها حظيرة التجدد ويحرمها مزاياها الخاصة· لذلك كنت أشفق من انهيارها كحضارة عربية وأسعى إلى مكافحة هذا المصير المحتوم الذي كانت تتقدم نحوه· وكنت أرى أن هذه المكافحة لا تكون ناجحة إلا بالإصلاح الاجتماعي والتجدد في الحياة العربية، بحيث تكون منسجمة مع الذهنية الأوروبية المعاصرة فتسايرها وتواكبها حتى تصل معها إلى الهدف الأسمى وهو رفاه المجتمع الإنساني وخدمة البشرية على النطاق العربي·
كنت لا أميل إلى ملاحظة الماضي إلا بقدر ما أستخرج منه من عبر وعظات تمهد لي الطريق في السير إلى الأمام والتقدم في مضمار الحياة الجديدة·
3- أما التحرر الفكري من القيود الموروثة والتقاليد، فكنت أراه ضرورياً للمجتمع العربي؛ لأن هذا التحرر بمثابة دواء ناجع يستعمله المريض ليقضي به على ما يفتك به من جراثيم وينتابه من أمراض في جسمه· وبدون هذا التحرر لا يمكن للفكر العربي أن يتقدم علمياً واجتماعياً ليصل إلى مبتغاه·
هذه المبادىء الثلاثة التي كنت أتوق إلى تحقيقها، كانت تأخذ عليّ في كل وقت تفكيري وانتباهي فكنت أقول في نفسي:
إذا أتيح لمصطفى كمال أن يحقق إصلاحاً جذرياً في تركيا عندما سنحت له الفرص فاستغلها وحقق من ورائها نفعاً جليلاً لبلاده وللشرق، فإنني كنت قبل قيامه بهذا الإصلاح باثنتي عشرة سنة قد نشرت مقالاً في (المجموعة الإسلامية) التي كانت تصدر في استانبول سنة 2 1 9 1م، بيّنت فيه ضرورة القيام بالإصلاح الاجتماعي كما قام به مصطفى كمال، ولكن القول بالإصلاح لا يكفي إذا لم تدعمه القوة· وقد توفرت هذه القوة لمصطفى كمال ولم تتوفر لي حينذاك· فبقيت أمني النفس بالآمال وأعللها بالأقوال المزوقة بدون جدوى·