رواية "مدائن الأرجوان" للكاتب السوري نبيل سليمان، الصادرة عن دار الحوار للنشر والتوزيع عام 2013، نقرأ من أجوائها:
في الشرفة لبث واصف عمران يتفرج بحياد على باص الحضانة وهو يبتعد بثريا: أليست ابنتك أيها الوغد؟
أنت هنا
قراءة كتاب مدائن الأرجوان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
مدائن الأرجوان
الصفحة رقم: 4
عندما عاد واصف إلى البيت كانت السماء قد صحت تماماً، كأنها لم تمطر منذ شهر. وزيّن الغروبُ الصحوَ بألوان فاتنة، لكن واصف كان منهكاً ومنقبضاً.
كان قد قضى بقية نهاره كأنه يتفقد المدينة أو يودعها. وبدت له المدينة مرة على أهبة كارثة، ومرة كأنها خارجة لتوها من كارثة. ولعل ذلك ما جعل استراحاته تبدأ بمسجد جعفر الصادق وتتثنى بكنيسة البروتستانت، ثم تتوزع بين مسجد أبي الدرداء وجامع العوينة وكنيسة الأرمن وجامع الأمشاطي وكنيسة الموارنة وجامع الميناء: هنا طالت استراحة واصف كما طالت قرب ضريح أم السلطان. ومن استراحة إلى استراحة كان يزداد تشوشاً. وقد يكون الجوع ضاعف ما به، وقد يكون الإحساس المبهم بالغربة، على الرغم من التحيات التي تبادلها مع بعضهم ومع بعضهن. وأخيراً تخلى عن عناده وتناول سندويشة الفلافل من عند الحموي كما كان عبد الرحمن هلال يفعل كلما تسنى له، حتى بعد ما صار الطبيب الأول للأمراض العصبية في اللاذقية.
بعد الحموي توحد ظلاّ واصف وعبد الرحمن: ميت يُبْعَثُ حياً وحيّ يُبْعَث ميتاً. ولكي يصحّ ذلك، اشتبه على الصديقين كل شيء، فحسب كل منهما الآخر تلك الأضحية التي سوف تُنحر ها هنا، على مرمى حجر، في أي ركن من أوغاريت. وليكن أحدهما طفلاً والآخر طفلة: ما الفرق ما دامت الأضحية ستطلى بالجبس وَتُلَفُّ بالديماس؟
غير أن واصف تمنّى ألاّ يوضع في الناووس. وما دام ذلك مستحيلاً، فقد تمنى ألاّ يُنْزَلَ الناووس إلى القبر. فليكن ذلك من نصيب عبد الرحمن، ليس فقط لأنه سبق إلى الموت، بل لأنه كان يتباهى بجده الفينيقي، وذلك الجد هو من استنّ للأضاحي تلك السنن. وقد يكون من قتل عبد الرحمن، إنما قتله جزاء على فينيقيته أيضاً، وليس فقط لأنه شيوعي أو علوي كما رددت اللاذقية في صباح الأرجوان أو في صباح عبد الرحمن: شو رأيك يا رمزية؟
* * *
لم ينبس واصف بغير ذلك السؤال منذ أوى إلى البيت، فنظرت إليه رمزية باستهجان، وأسرعت إلى غرفة ثريا. وللمرة الأولى أغفى واصف مبكراً، ربما قبل أن تغفو ثريا. وللمرة الأولى يسبق واصف الفجر: خفق قلبه سريعاً، أفاق مجفلاً، هدأ القلب سريعاً وخلّف لصاحبه أثر دغدغة. تبسم الرجل بينما تسللت إلى جفنيه أصابع غليظة وراحت تدعك بقسوة. غارت الابتسامة، وحاص رأس الرجل فراراً من الأصابع التي ازدادت غلظةً وقسوة. وفجأة اخترقت سمعه رصاصة، بل ثلاث، بل زخّة. زخّة من الرصاص مثل زخّة من المطر. وفجأة تفرقت الرصاصات، ثم أطبق السكون، بينما كان السرير قد كوّر واصف وسمّره ونشّف ريقه. وربما كان سيظل كذلك إلى يوم القيامة، لولا أن رمزية اقتحمت الغرفة بصوت هلوع:
ـ نايم والدنيا خربانة؟!
ـ شو صاير؟
تساءل بصوت أكبر هلعاً، ولغط بما لم يتبينه مثلما لم يتبين ما لغطت رمزية به، حتى إذا اقتحمت الشرفة، ورفرفت في الغرفة نسائم الفجر الباردة، أدرك الرجل أن الرصاص قد عاد يزخّ، ولكن مثل البَرَد هذه المرة، وبعيداً عن هذا البيت الآمن في هذا الحي الآمن في هذه المدينة ال...
هل باتت اللاذقية غير آمنة؟
تساءل وهو يجر قدميه إلى الشرفة. ولما التصق كتفه بكتف رمزية، تمنى لو أن سريرها يعود إلى الغرفة. وسرى الدفء في الساعدين اللذين تماسّا مصادفة. وأحسّ واصف برجفة مبهمة سرعان ما أسفرت عن الخوف، بينما أخذ الرصاص يتلاشى. لكن جذع رمزية الذي مسّ جذع واصف مصادفة أيضاً، بدّل الخوف بالشهوة. وانتظرت الشهوة حتى أطبق الصمت، عندئذٍ طوق ذراع واصف خصر رمزية وهو يهمس:
ـ خايفة؟
ـ وأنت؟
همست رمزية باشتهاء أكبر جعل ذراعيها تطوقان عنق واصف، ثم تدفنان وجهه بين ثدييها. وللمرة الأولى منذ تزوجا قبل عشر سنوات سبقت شفتاها شفتيه، وللمرة الأولى أيضاً منذ تزوجا، لم تستح أصابعها منه، بل طاب لها أن تبالغ في الدعك. ولعل ذلك لم يكن سخرية أو انتقاماً، بل فضولاً وحسب. ومهما يكن، فقد جعل الدعك أسنان واصف تصرّ، وأنفاسه تتوجّع.