كتاب "مداخلات"، يقول نعوم تشومسكي إن حرية التحدي الفوة ليست فرصة فقط بل هي مسؤولية .وطوال السنوات العديدة الماضية دأب تشومسكي على كتابة مقالات لمؤسسة نيويورك تايمز ليقوم بتلك المسؤولية : تحدي القوة ، وكشف التبعات العالمية للسياسة والاعمال العسكرية الاميريكي
أنت هنا
قراءة كتاب مداخلات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمــــة
بقلم بيتر هارت
هنالك أعداد لا تحصى من الطرق لدراسة وسائل الإعلام الشاملة - مقارنة مع ما يتم إهماله أو دفنه في الصفحات الخلفية، أو تحليل المصادر والخبراء الذين يهيمنون على نقاشات الأحداث المهمة· يساهم مثل ذلك العمل في قياس المسافة بين الخطاب الإعلامي للتنفيذيين وألمع النقاد وبين ما يظهر على الصفحات المطبوعة أو شاشة التلفزيون· وهذه الهوة بين القيم التي تعترف بارونات الشركات الإعلامية أنها تقدّرها - الصحافة القوية والمتشككة والمناوئة - والمنتج الذي تبيعه، غالبًا ما تكون هوة عميقة، ولكن في أوساط النخبة يبدو أن التشدق بأكثر مبادئ التعديل الأول احترامًا مهم أكثر من الالتزام حقيقة بتلك المبادئ·
ولا تختلف أبواب التعليقات في الصحف، على نحو غير مدهش· إن التعهد بتقديم نقاش حر إلى القراء أمر مكرر إلى درجة الغثيان - نطاق واسع من الأصوات ووجهات النظر، وفقًا لإحدى الصحف؛ وتنوع في الآراء لتحفيز وتحدي تفكير القراء، لصحيفة أخرى· ووصف بحث أكاديمي أبواب التعليقات هذه بأنها المكان الذي يمكن أن يظهر فيه النقاش العام من خلال تأملات محرر الخدمة، دون قيود· وتتوق صحيفة نيويورك تايمز إلى صفحة تعكس النقاشات الاجتماعية والثقافية والسياسية الرئيسية في الوقت الراهن·
إن معظم صفحات التعبير عن الرأي لا تبدي هذه الأهداف السامية رغم أن رسالة التايمز تقترب من وصف ما يجري حقيقة· وفي صحف النخبة - تلك التي توزع بأعداد كبيرة، والتي تمارس النفوذ الأكبر بين المتنفذين (بشكل رئيسي لوس أنجلوس تايمز، وواشنطن بوست، ونيويورك تايمز) - تخدم صفحات التعبير عن الرأي كمكان إضافي لتخطيط مؤشرات النقاش المقبول بدقة· وما يمكن نشره بانتظام يكون ضمن هذه الحدود كما هو واضح، والأفكار التي نادرًا ما تظهر أو لا تظهر على الإطلاق لا تكون ضمنها بكل تأكيد· بناء عليه يمكن للتايمز أن تقول دون مبالغة إن صفحتها، وصفحات عديدة مثلها تعكس نوعًا معينًا من النقاش العام- تحديدًا ذلك الذي تحتمله طبقات النخبة السياسية ومصالح الشركات· أما النقاش الذي يجري رسميًا في واشنطن يمكن ألا يشبه كثيرًا النقاش العام الحقيقي حول القضايا المهمة، لكنه النقاش الذي يفترض أنه مهم ولذا فهو الذي يظهر في الصحف· إن ميدان النقد التلفزيوني ذي الصلة - حفنة من الصحفيين والمعلقين الذين يكسبون عيشهم بتقديم مقتطفات صوتية بليغة حول أي موضوع تقريبًا - يعاني من الطيف نفسه المحدود للغاية، وهذه ليست مصادفة، بالاعتماد في أغلب الأحيان على الأشخاص أنفسهم لتقديم الرأي والتحليلات·
إن صفحات الرأي والعمود المنتظم ليسا ملمحًا جديدًا لوسائل الإعلام الجماهيرية رغم أن تاريخها المضبوط مظلم إلى حد ما· فصحيفة نيويورك تايمز تعزو لنفسها الفضل بالخروج بهذه الصيغة المألوفة الآن في عام 1970: صفحة مقابل افتتاحيات الصحيفة - ومن هنا جاءت التسمية صفحات الرأي - والتي تظهر في الغالب مقالات قدمها كتاب من خارج الصحيفة· وكما هو الحال غالبًا في عالم صحافة النخبة، اتبعت الصحف الأخرى ريادة التايمز وأصبحت الصفحة شائعة نسبيًا في شتى أنحاء البلاد·
وبينما تعدّ التايمز المسؤولة عن جعل الصيغة أكثر شعبية، يبدو من غير المحتمل أن الصحف ساهمت بتقديرها المتواضع في ولادة طفل جديد يدعى صفحات الرأي (كان ذلك تقييما ذاتيًا أجرته التايمز في عام 1990، تحت العنوان المتواضع جميع وجهات النظر المناسبة للطباعة)· وأشار العالمان ديفيد كروتيو وبيل هوينز في المجلة التي تصدرها العدالة والدقة في التقارير (فير) والتي تحمل اسم اكسترا (حزيران 1992) إلى أن الأعمدة السياسية والاقتصادية المنتظمة كانت تظهر في عشرينيات القرن الماضي؛ ووجدت دراسة أخرى أن الصحف في شتى أرجاء البلاد تزعم أن أبوابها للرأي سبقت تاريخ وجود التايمز·
والأهم من مسألة من ساهم بولادة الصيغة هو ما الذي فعلوه بها· فبينما يبدو النقاش الحر الواسع النطاق شيئًا لطيفًا دون شك، لم يكن ذلك ما كان يظهر على صفحات التايمز· فقد وضح أنثوني لويس، وهو كاتب عمود سابق في التايمز، قائلاً في إحدى المرات، على سبيل المثال، إن الصفحة كانت بكل وضوح مخلوقًا من صنع السياسيين من أصدقاء مؤسسة التايمز، والفكرة التي قدمها على أنها تمثل وجهة النظر اليسارية أو التقدمية، التي بمكن أن توازن بين أمثال وليام سافير، كانت سخيفة، وعندما أجرى بين باغديكيان دراسة على صفحات الرأي في منتصف ستينيات القرن الماضي، وجد أن مزاعم المحررين بأنهم سعوا إلى نطاق إيديولوجي واسع من كتاب الأعمدة كان من الصعب موازنتها مع حقيقة أن الصحف كانت تهيمن على كتاب الأعمدة المحافظين
لدى دراسة المشهد بعد ثلاثين عامًا، وجد كروتيو وهوينز انحرافًا مماثلاً إلى اليمين في توزيع كتاب الأعمدة السياسيين· ومن بين أعلى سبعة من كتاب الأعمدة الأكثر توزيعًا، كان أربعة منهم محافظين معروفين (جورج ويل، وجيمس كيلباتريك، ووليام سافير، ووليام إف بوكلي)· وقريبًا من الطبقة العليا كان المراسل السياسي من الوسط ديفيد بوردير وكاتب العمود مايك رويكو، فيما كان ألن غودمان الليبرالي الوحيد· وكما استنتج كروتيو وهوينز، فإن أكثر كتاب الأعمدة توزيعًا في يومنا هذا ما زالوا يقدمون رسائل يتردد صداها مع الحق، ولا يوجد رغم ذلك تقديم منطقي 'لوجهة النظر الأخرى'
بعد نحو عشر سنوات، وجدت دراسة أخرى أجرتها الأمر ذاته إلى حد كبير - بالكاد تغير الطيف الإيديولوجي ولكن بعض الأسماء غيرت مواقعها· فقد كان المحافظان المتشددان جيمس دوبسون وكال ثوماس على رأس القائمة (بحسب عدد الصحف التي تحمل أعمدتهم)، والزميل المحافظ روبرت نوفاك وجورج ويل ليسا بعيدين عنهما·
لقد كان هنالك دوما بعض الاستثناءات للقاعدة بالطبع· فالتقدمية الشعبية مولي إيفينز، على سبيل المثال، كان عمودها يظهر في أكثر من 300 صحيفة إلى أن توفيت في أوائل 2007· ولكن بالمعنى الأوسع، فإن صفحات الرأي في الصحف اليومية ما هي إلا زاوية أخرى لعالم وسائل إعلام الشركات تهيمن عليه أصوات اليمين، ويمتد النقاش العام من أقصى اليمين إلى الوسط على الرغم من بعض الاستثناءات العرضية·
بالكاد يبدو ذلك مفتوحًا للنقاش الجدي، بغض النظر عما يقوله النقاد الأكثر تحفظًا ومضيفو أخبار الكابل حول مزاعم اتجاه صحافة الشركات نحو اليسار·
وضح آدم ميرسون، محرر النشرة الإخبارية للمؤسسة الفكرية المحافظة هيريتج فاونديشين (تشرين الثاني 1988) قائلا:
اليوم، يهيمن المحافظون على صفحات الرأي ولدينا كم هائل من الرأي المحافظ، ولكن ذلك يخلق مشكلة لأولئك المعنيين باختيار الصحافة مهنة بعد الجامعة··· فلو تخرج وليام بوكلي من جامعة ييل اليوم فلن يلفت إليه أحدًا· ولن يكون شخصًا غير عادي·· لأنه يوجد على الأرجح مئات الأشخاص الذين يحملون الأفكار نفسها، ولديهم فعليًا أعمدة منتظمة·
لا ينبغي على المحافظين الشباب التواقين إلى الحصول على فرصتهم في صفحات التعليق الكبيرة فقدان الأمل، إذ أشار رئيس مؤسسة نيويورك تايمز أنه بينما يوجد القليل جدًا من أسواق المنافسة الباقية وعدد أقل من الصحف، إلا أنه ما زال يوجد حيز لبعض الأشياء- لا سيما الأعمدة المحافظة للأقليات أو النساء
إن أسى ميرسون يؤخذ به رغم ذلك بإلقاء نظرة على المواقع الإلكترونية لكبريات المؤسسات الصحفية· فلو أراد محرر صفحة الرأي بصدق أن يقدم تعليقًا يميل إلى اليسار، إلى القراء، فسيكون من الصعب أن يفعل ذلك بالاعتماد على مؤسسات كبيرة· وإحدى تلك المؤسسات الكبيرة، كريتورز، تقدم دزينتين على الأقل من المحافظين المعروفين جيدًا؛ بينما يمكن عد اليساريين الحقيقيين أو التقدميين على أصابع اليد·
ويمثل ذلك جزءًا فقط من القصة كاملة· طوال السنوات العشر الماضية أو أكثر نبذت الصحف الرئيسية العدد القليل من كتاب الرأي الذين يميلون إلى اليسار الذين شقوا طريقهم إلى وسائل إعلام النخبة· وفي تموز 1995 طردت يو إس أيه توداي كاتبة عمودها التقدمي الوحيد، باربرا رينولدز· وبعد عامين تخلت صحيفة واشنطن بوست عن صوتها الموثوق للسلام والعدالة، كولمان مكارثي الذي كان يكتب للصحيفة منذ أواخر ستينيات القرن الماضي· والسبب؟ لقد تكلم السوق، وفقًا لمدير التحرير في البوست روبرت كيسر· تستمر الصحيفة في إيجاد سوق للشجعان من أقصى اليمين، أمثال تشارلز كراوثامير وجورج ويل، اللذين لا تبدو وجهات نظرهما تقتضي الشرعية في الأسواق مطلقًا، بغض النظر عن احتمال خروجهما عن إيقاع المشاعر العامة·
في عام 2005 تركت لوس أنجلوس تايمز روبرت سكير كاتب العمود الذي يميل إلى اليسار، وكان ملمحًا راسخًا في الصحيفة قرابة ثلاثين عامًا· ومع الحرب العراقية فإن تحديد القضية السياسية في سنواته الأخيرة ككاتب عمود في التايمز، كان سكير نادرًا بين النقاد ذوي الاتجاه السائد؛ لكونه متشككًا بشكل قاطع بمزاعم البيت الأبيض حول العراق·
قبل أن يصبح من السهل على وسائل الإعلام العملاقة أن تدعي أن الجميع كان مخطئًا بشان أسلحة الدمار الشامل العراقية، كان سكير يكتب (6 آب 2002) أن إجماعًا من الخبراء قال لمجلس النواب أن الترسانة الكيماوية والبيولوجية العراقية قد دمرت تمامًا على الأغلب خلال سنوات التفتيش الثماني·
وبعد أشهر يصف سكير ذرائع البيت الأبيض على أنها كذبة كبيرة دعا سكير إلى انسحاب الجنود من العراق أواخر 2003 وهو موقف ما زال غائبًا تقريبًا عن مناقشات النخبة بعد ثلاث سنوات· ويمكن أن يعزى طرد سكير إلى عدة عوامل: حملة من اليمين ضده من قبل أمثال بيل أورلي من فوكس، أو انتقال الصحيفة إلى أيدي شركة تريبيون· وقال سكير نفسه إن الناشر الجديد للتايمز أبلغه بأنه كان يكره كل كلمة كنت أكتبها·
ومع تخلي الصحيفة عن أفضل كُتّابها التقدميين، عززت التايمز تقدماتها من الجانب الأيمن من الطيف السياسي: المحافظ الجديد ماكس بوت، والمؤرخ نيال فيرغوسون، وجونيه غولدبيرغ من ناشيونال ريفيو· إن بعض أهم مساهمات غولدبيرغ في النقاش العام اشتملت على الاستهزاء بالفرنسيين بأنهم القردة المستسلمون آكلو الجبنة لمعارضتهم الحرب العراقية، ومحاولة إغواء ناقد أكاديمي لاحتلال العراق بالمراهنة بألف دولار، على أنه لن تكون حرب أهلية في العراق، وأن معظم الأمريكيين والعراقيين سوف يرون للحرب قيمة بحلول 2007·
من غير المحتمل أن يعاني غولدبيرغ - أو أي محافظ آخر يحتل مقعدًا عاليًا في إعلام الشركات- من العديد من الليالي القلقة خائفًا على أمن وظيفته في وسائل الإعلام التي تزعم أنها يسارية· إن واحدة من مزايا النقد من جهة اليمين هو عدم القلق كثيرًا بشأن النتائج العكسية لكونك مخطئًا في أمر ما (أو في بعض الحالات، بشأن أمور عديدة)· ففي عام 1992 مثلاً، قدم كاتب العمود المنظم على نطاق واسع جورج ويل نتائج استطلاع غالوب بشكل خاطئ تمامًا، من أجل ضرب وجهات نظر آل غور حول الاحتباس الحراري، مجادلاً بالقول إن معظم العلماء لم يعتقدوا أن الاحتباس الحراري يحدث فعلاً·
نشرت غالوب فعليًا بيانًا يصحح خطأ ويل الفادح- لقد وجد استطلاعها العكس تمامًا مما كتب ويل - ولكن معظم قراء ويل لم يشاهدوه ولم يصحح ويل تشويهه للحقائق مطلقًا·
إن تقديم وقائع خاطئة يمثل جانبًا واحدًا ولكن في أغلب الأحيان تحفل التصريحات والوصفات الصادرة عن نقاد رئيسيين بمشاكل أخرى· لقد صنع كاتب عمود الشؤون الخارجية في صحيفة نيويورك تايمز مهنته من تقديم تفاهات فقيرة العقل حول العولمة وحماس روح المغامرة المنتصرة للرؤساء التنفيذيين للشركات- وذلك عندما لا يقرع طبول الحرب ويحض الولايات المتحدة على شن العنف على الشعوب التي تعيش في الدول الأضعف· رغم ذلك يتمتع فريدمان بسمعة لا يستحقها بصفته من أفضل العقول ذكاء في الصحافة (حقيقة مدهشة بالنظر إلى عمله، ولكن نسبة إلى زملائه من كتّاب الأعمدة والنقاد فربما أنه أقل صدمة)·
في مناقشة جرت عام 2006 مع مضيف إن بي سي تيم روسيرت، اعترف فريدمان أنه يعرف القليل حول أحد المواضيع التي يخصص لها وقتًا مهمًا· ومستذكرًا سؤالاً حول مجال كتب بشأنه يتعلق بما إذا كان يعارض تمامًا ما يطلق عليه اتفاق التجارة الحرة، أجاب فريدمان مؤكدًا بقوله: لا، على الإطلاق ··· لقد كتبت عمودًا يدعم كافتا، مبادرة التجارة الحرة الكاريبية، رغم أنني لم أعرف محتواها· لقد كنت أعرف كلمتين فقط: تجارة حرة جدير بالذكر أن فريدمان لم يستطع أن يسمي اتفاقيته للتجارة المفضلة باسمها الصحيح، مشيرًا بالحرفين الأوليين سي أيه اللذين يمثلان أمريكا الوسطى وليس الكاريبي·
إن إجماع النخبة على قضايا مثل التجارة يعني أن كتّاب الأعمدة المقروئين على نطاق واسع مثل فريدمان، عليهم فقط أن يكرروا المزايا العديدة لنظرية العولمة من أجل أن يبدوا مطلعين جيدًا·
ومن غير المحتمل أن يعرف القراء الكثير مما يمكن أن يعارض هذا المذهب، فثمة قليل من الاختلاف ضمن طيف الجدل الضيق لإعلام الشركات·
ومن المفيد المقارنة بين إجماع الرأي العام، الذي كان متشككًا منذ فترة طويلة من صفقات التجارة، مثل اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)· إن معارضة المواطن لسياسة التجارة العالمية الصديقة للنخبة بالكاد تعدّ وجهة نظر مشروعة· ففي عام 2000، جلبت الحركات الجماهيرية المعارضة للوصفات الليبرالية الجديدة التي أصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، عشرات الآلاف من الناشطين إلى العاصمة واشنطن - ونقمة كتاب الرأي في صحيفة نيويورك تايمز·
وفي أقل من شهر، نشرت التايمز خمسة انتقادات ضد الاحتجاجات على صفحات التعبير عن الرأي، ولم تنشر واحدًا يدعم تلك الاحتجاجات، أو حتى تناول مخاوفها باحترام· لقد بدا واضحًا من الكثير من العناوين (إنقاذ العالم الضائع، تعلم أن تحب صندوق النقد الدولي، و مجانين فعلاً)، غير أن محتوى المقالات كان أكثر هستيرية من العناوين·