أنت هنا

قراءة كتاب نقد التضليل العقلي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نقد التضليل العقلي

نقد التضليل العقلي

هذا الكتاب يثير المسألة من زوايا علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الثقافية السياسية، ويطمح إلى تصحيح العلاقة بين الجماعات المكوّنة للبنان والمشرق العربي، حتى يتاح للجميع الاندماج الوطني والعربي في أنظمة أكثر تحرّراً وديمقراطية وعدالة.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

1· خاصّة الإسلام:

فلسفيّاً، الحقائق متعدّدة الأطراف والمصادر والمواضع؛ هي علميّاً واحدة الطَّرف المصدر (من العقل إلى التجربة والفعل أو الجدوى التطبيقية)· أما دينيّاً، فالحقائق موضوعة فوق الفلسفة والعلم، موضوعة في مكان آخر، وموجّهة لكل الأطراف، لكنْ من طرفٍ واحد· وكلُّ طرف واحد، يرى نفسه في مرآةِ ذاته، خاصاً، من دون آخر، أو آخرين، فيدعوهم تارةً (عامّة) وتارة (أميِّين)· وأصعبُ الأبحاث في عصرنا يقعُ في المجال الديني، القدسيّ المصدَر (الذي ليس كمثله شيء في الإسلام)، أو المقدّس في تعريف الدين نفسه، واستطراداً في تعريف أهل الدين لأنفسهم· ونحنُ في علم الاجتماع الديني، نبحث عن منطق العلم الديني، فنكتشفُ أنّه منطقٌ خاصٌ بأهله الذين يركبون حقائق وعيهم من عدَّة مصادر، بعضها إلهي، ومعظمها إنساني؛ وأقلّها تاريخي وأكثرها اعتقادي؛ ولا يدرون بعد أنها حقائق سوسيولوجية، تقعُ بين التاريخي والاعتقادي، لا فوق الفلسفة والعلم، ولا فوق المعرفة والسياسة· هذه المشكلة المنهجيّة، نجدُها في كل الأديان النبويّة، الرسوليّة والإمامية، خصوصاً بعد انقطاع النبوّة واندراج الدين في التاريخ (كسياسة) وفي الثقافة (كمعرفة) وفي المجتمع (كمُختبر عام (لكل الحقائق)· وهي تتحوّل إلى إشكاليّة أو قضيّة، تعني البحث العلميَّ، بقدر ما يدَّعي كل طرف ديني أنَّه مالك حقيقةٍ بنصٍّ إلهي، وأنّه هو وحده الخاص، المُميَّز· ··· شيء خُصصتُ به من دونهم وحدي ، هكذا يظهر في الثقافة منطقُ أهل الخاصة مقابل واقع المجتمع العام (أهل العامّة)· والفرَضيّة الكبرى التي تشغلنا في هذا المبحث العلمي، هي : هل في الإسلام خاصّة وعامّة؟ وهل أهل الخاصّة أو الشيعة في لبنان والمشرق العربي، بدأوا منذ منتصف القرن العشرين وحتى آخره، بإعادة النظر في أدائهم الديني - السياسي؟ أم أنهم مازالوا يعتبرون أنفسهم خاصة الإسلام، وأنهم هم بيضةُ الإسلام، وعندهم جوهر الدين، بل هُم الدّين، وإن كانوا ملّة أو مذهباً أو طائفةً في عالم الإسلام الأكبر؟
في سوسيولوجيا الإسلام، يمكنُ التفريق بين دين هو من الله (وحيٌ يُوحى لنبيٍّ مصطفىً)، وبين ملّةٍ تستجيبُ لدعوة النبيّ المُرسل، وبين مذهبٍ تذهبُ إليه أطرافٌ من أهل الدّين والملّة معاً، فتؤلف في ما بينها حزباً أو شيعةً، فرقةً أو مسلكاً خاصاً، يعتقدُ أصحابهُ أنّهم الأخصُّ والأوفرُ علماً وفهماً للدّين العام، دون الآخرين من الدين نفسه، وترجيحاً، من عموم الديانات الأخرى، النبوية وغير النبويّة· وبذلك، يحدثُ سوسيولوجياً وأنثروبولوجياً، رفعُ كلِّ مذهبٍ إلى ما فوق الملّة والدّين، على الرغم من تأكيد أهل المذهب المدروس (الشيعة، مثلاً) أنّهم مسلمون، وإسلاميّون بالدرجة الأولى· وفي مستوى آخر، تتقابل اجتماعياً هذه الثلاثية (الدين/ الملّة/ المذهب)، مع ثلاثيّة النصوص الدينية :
أ) ما كانَ من الله للنبيّ، لفظاً ومعنى، فهو نصّ ديني، وهو مقدَّس (القرآن)؛
ب) وما كان من الله للنبيّ، معنىً لا لفظاً، فهو حديث قدسي (نص ديني متمّم للكتاب)؛
ج) وما كان من النبي للناس في موضوع الدين، فهو حديث نبويّ (نص ديني متمّم للنبوة، للسيرة النبوية والصحابة أو الجماعة)·
وهنا نضيف : ما كان من النبيّ للنّاس في موضوع الدّنيا (المكان الوجودي، حيث يكون النبيُّ بشراً مثل باقي البشر، ويكون البشرُ أنفسهم في جلباب الدُّنيا وأمورها، بمعزل عن القدسيّ والدينيّ)، يراه البعضُ علماً أو فكراً عادياً، ويراه آخرون مقدّساً، غير عادي، إذ كلُّ ما يصدر عن النبيّ، في دعواهم، هو نبويّ، لاعتقادهم بأنَّ النبوَّة واحدة، وتامة ودائمة، من الولادة إلى الوفاة؛ وأن النبيَّ واحد لا يتجزّأ ولا يُفهم على مستويات وبتحليلاتٍ أو تأويلاتٍ شتّى· هذا البُعد الرابع لشخصيّة النبيّ هو البُعد التاريخي - السوسيولوجي، الذي يسكتُ عنه المتديّنون العامون، ينفخ في بوقه العلمانيّون السيئون، الهادفون إلى نفي الدين ونقض الإسلام وكل ما يتّصل به، أكثر من السعي العلمي إلى درس الإسلام كما هو، وفهمه، واكتشاف منطقه السوسيولوجي وقواعد حراكه وتطوّره· فيما العلمانيّون العلميّون، الذين ينظرون إلى كل ظاهرة بعلم، دونَ أي هدف آخر، يدرسونَ الظاهرة الإسلامية في كل مصادرها ومستويات تحقّقها الاجتماعي في تاريخٍ ما· والواقع أن ما شهده العالم الإسلامي هو العلمانيّة السيئة، الإيديولوجية، غير الفلسفية ولا العلميّة، في أخطر أشكالها كالعلمانية التركية العسكرية، الرامية الى إلغاء الإسلام في الدولة والمجتمع، والإيديولوجيّات القوميّة المكتسبة التي تعودُ بتاريخ لبنان والمشرق العربي، إلى ما قبل الإسلام، وكأن هذا الدين لم يحدثْ، ولم يستبطن تاريخ الجماعات في هذه المنطقة الدينية بامتياز؛ ناهيك بالإيديولوجيّات الشيوعيّة، الوافدة من مجتمع صناعي، قسّم العمل الاجتماعي ووزّع السلطة بين الناس، على خلافٍ ما هو الحال عندنا في مجتمعات زراعية - رعوية، قبائلية وطوائفية، تتخالطُ فيها الأعراقُ والدياناتُ والمذاهبُ والأحزابُ الحديثة· وتبقى العلمانيّة العلميّة، السوسيولوجيّة في منهجها، والأنثربولوجيّة في أغراضها، مُستَبعدةً في عالمٍ يسهلُ فيه التحويلُ السريع للعلميّ إلى إيديولوجي، بلا عكس· هنا العلمُ الصّارمُ مطرود، مُطارد ومُسْتبعد باستمرار، كأنّه عدوٌ آخر، يصادقُه بعضهم لاحتوائه أو لتحويره وزرعه في وادٍ غيرِ ذي زَرْعٍ ولا ماء!
والحال، وصلنا في النصف الأخير من القرن العشرين إلى تشويهٍ سوسيولوجي خطير، حيثُ جرى إيديولوجياً قلبُ القبائل والعائلات إلى أمم وشعوب وجماعات مالكة أو حاكمة؛ وجرى في المقابل قلبُ المذاهب أو الطوائف إلى ديانات، فرُفِعَ رجالُ الدّين من بين الخاصة إلى مراتب أهل السلطة على العامّة· ولا يظنُّ أهل الخاصة، من الشيعة وسواهم، أنّ مذهبهم ليس ديناً، وأنّه غير مُرشح، مع الاسلام ونبيّه وكتابه وإلهه الأوحد للارتفاع إلى مرتبة دين، بأي معنىً من معاني الدين، وإنْ زُيّن لخاصة كل دين أنّهم، اجتماعياً، مُميَّزون، مُتمايزون من سواهم، فهم كما يقال، خاصّة رُتبة أو درجة، لا خاصّة دين - خصوصاً وأن الإسلام يؤاخي بين المؤمنين كافّةً، بلا درجاتٍ إلاّ في التقوى· ولكن، عند فرضيّة التقوى هذه، تعودُ المذاهبُ - الطوائفُ إلى تجديد خطابها الديني، ورفعه مواربةً أو مباشرةً، إلى مرتبة دين خاص· هذا الحال تستوي فيه اليهودية والنصرانية والإسلامية، عندنا في لبنان وفلسطين وعموم المشرق العربي، خصوصاً عندما يتحوّل أهل مذهب أو طائفة إلى أكثرية اجتماعية (حاكمة أو ساعية إلى الحكم)، أو إلى قوة اجتماعية فاعلة، وحاكمة، ولو من موقع أقلية قبليّة، طائفية أو حتى عائلية· فلا يتصوّر أهلُ الخاصة أن تقواهم ليست وقفاً عليهم وحدهم، وأنّها موجودة أيضاً لدى آخرين، كما هو حال الأمور الأخرى، كالدين والعلم والمال، والسلطة والسلاح، وغير ذلك· فمشكلة الخاصة أنها تستبعدُ فعلياً الآخرين، الذين لا يشاركونها في اعتقاديّتها الخاصّة بها؛ وأنّها تحوّل الميزة الاعتقادية (الخصيصة أو الخصوصية) إلى امتيازٍ للذات على كلّ آخر، حتى داخل المذهب نفسه (فيجري التمايزُ، مثلاً، بين العادي - المرحوم، المغفور له - وبين المقدّس، قُدّس سرُّه؛ وكذلك بين العاميّ في مذهبه الذي يعبرُ دُنياه بلا ظلّ، فيما الخاص يُدعى له بدوام ظلّه، الخ·)· وفي هذين المستويين، يُطلب من جمهور الخاصة أو المذهب، رفع الاعتقادي إلى سياسي أو سياسة، مدموغة بنصٍ إلهي، سَرعان ما ينعكس في وصف سياسة أهل الخاصة بأنها (إلهيّة) و (دينية) أي (مقدّسة)· وهنا يلفتنا السيد محمد حسين فضل الله، في حديثٍ تلفزيوني، إلى أنَّ الدين مقدّس، وأن رجال الدين غير مقدسين، وأن أفكارهم المبثوثة بين الناس هي أفكار عادية، خاضعة للنقد والنقض الخ· والسيد فضلُ الله ليس علمانيّاً ولا فيلسوفاً بعيداً عن رؤية العالم بعلم· هو شيعيّ يضعُ الإسلام فوق التشيّع، وفوق كل خاصة وعامّة· وعنده أن الإسلام هو الأصل الديني لكل المؤمنين به، وأنّ كل ما نتج عنه في تاريخيته، هو فرع، وفصل، ونتاج تطوّر؛ وعليه،· فلا معنى لكلامٍ على مذاهب مسلمين، من دون الإسلام عينه، وهو لا ينفي التمذهبات في الاسلام، ولا يطردها من خطابه الديني- السياسي أو التاريخي، ولا يدعو إلى تجاوزها أو دمجها أو إلغائها، بقدر ما يدعو إلى رؤيتها، كما هي، من داخل الإسلام - قولوا: نحن مسلمون ···· وأضيفوا إلى هذه الهوية ما شئتم من مذاهب، لكن حذار من قلب المذاهب إلى ديانات بديلة، أو بعيدة من الإسلام· فكيف إذا تحوّلت المذاهبُ نفسها إلى أحزابٍ أو أسبابٍ جديدة لجلب الدُّنيا إلى الحكام - الملوك والرؤساء؟ هذه الإشكاليّة المعرفيّة، تشغلُ اليوم عموم المسلمين والإسلاميين، وليس الشّيعة وحدهم، مع إصرارهم على إسلامهم، وعلى أنّهم (خاصّة الإسلام) بلا منازع إيديولوجي، وسط صراعٍ سوسيولوجي ظاهر، على التمكن من المكان، وبلوغ المكانة التي تدّعيها لنفسها كل خاصّة دينية·

الصفحات