أنت هنا

قراءة كتاب مذكرات الجرذان الغريقة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مذكرات الجرذان الغريقة

مذكرات الجرذان الغريقة

رواية "مذكرات الجرذان الغريقة"، للكاتب الأردني وائل رداد؛ الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، نقرأ من أجوائها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

الجزء الأول

الفصل الأول

في تلك الليلة جلست واجما أمام الورق الشاحب وعلى نور ضعيف لشمعة نصف ذائبة, الكهرباء مقطوعة كالعادة والمياه جافة في الصنابير, حمدا لله على ضيق اليد وكل حال ضائقة, ذلك ما ظللت أردده وأنا اشهد بأم عيني التقلبات التي حاقت بالأصدقاء القدامى, والعجائب التي أصابتهم كالطعنات النجلاء من كل ناحية بلا هوادة..
لقد صعقتني رؤية صديق قديم تجاهلني بشذر كالغريب, هذا محال.. كنا كأخوين وأكثر..
لكن لم ألومه بهذا الشكل؟.. لقد عانى الأمرين, المنغص والإسفين المدقوق المسمى ضياع, كأنه فرمان القدر الذي لا مفر منه, ويبدو أنه قدم إلى هذه البقعة لمزيد من المعاناة, لكن دون كلل.. إن (كهف) لا ييأس ولا يعرف مذاق اليأس البغيض, تماما كخربق وسوار..
كنا أربعة رفاق على غير وفاق, سواء في الأوضاع أو الطباع.. (سوار) ابن طبيب مختبر التحاليل الطبية, حيث يبصق ويتبول الناس في عينات محفوظة بعيادته طوال الوقت, وابن أخت خوري الكنيسة في جرش, فتى مليح حاد الذكاء, ولربما أكثرنا حماسة للتمرد على الإيقاع الرتيب ولكن بالحلول السلمية في بعض الأحيان.. لقد ادعى أمام خاله أننا على دين بولس فقط كي نأخذ حريتنا بالدخول والخروج كل يوم أحد في الكنيسة القائمة قبالة المسجد مباشرة, ليس للتهجد أمام الصليب طبعا, بل لرؤية فاتنات العوائل المسيحية اللواتي يتجمعن داخلها للترنُّم بعقائر شجية حقا, لا أزال أذكر صداها المتردد بين الجدران العتيقة المتسعة..
أما قاعة المحكمة في ساحة البلدية فلطالما كانت قرة أعيننا وتسليتنا المفضلة, كنا نزورها دائما للاستمتاع بمشاهدة وقائع محاكمة شخص متهم, ويزيد من متعتنا إدانته, الإدانة ممتعة ذات أسرار مبطنة بغموض لا يمكن إدراك سره, أهو بريء؟.. أهو مدان حقا؟.. وحده الله أعلم..
الكل يترقب دخول رئيس هيئة المحكمة, يراقبون عرشه الفارغ متوقعين كيف سيكون الحال بعد جلوس صاحبه عليه, يتهامسون فيما بينهم..
أصحاب القضية أصواتهم شبه مسموعة, ملأى بالتوتر الذي حاولوا تخفيفه بعبارات على غرار: «القاضي متسامح رؤوف».. , ولا يتوقف صخب الكلمات المتبادلة إلا لدى دخول رئيس هيئة المحكمة, فيشرع بلا مقدمات بالنظر إلى أول ملف, فتشرئب أعناقنا لرؤية المتهمين في المكان المخصص لهم, متجاهلين التفاصيل غير الضرورية من محاضر استماع من طرف عناصر الشرطة القضائية وما ذكر في محاضرهم, فلا ننتبه إلا لدى مناداة الشهود واحدا تلو الآخر.. كانت أجواء تلك الذكريات الفاتنة الأولية بين جدران المحكمة هي النواة الأولى في دفعي لأن أصير محاميا في مستقبلي الذي كنت اجهل مكنوناته..
متعتنا الأخرى كانت ذات نقاء صبياني خالص, تمثلت في رسم شوارب ونظارات على وجوه الملصقات المعلنة عن انتخابات البلدية المقبلة, كنا ننتظر العمال ريثما يفرغون من إلصاق صور المرشحين, ثم نخرج من مخابئنا لنعبث بوجوه أصحاب الصور من ذوي المناصب الهامة, أحيانا نضيف قرونا إلى صاحب صورة بعينه ممن اشتهروا بدماثة أخلاقهم لدى بدء الترشيحات, لكنه وقبل ذلك لم يكن ملاكا في تعامله مع خلق الله..
أحيانا نتسلل ـ (سوار) وأنا ـ وننضم لخربق وكهف خارج أسوار المدرسة الآيلة للسقوط, ونهرب إلى حيث مسارح جراسيا القديمة والأقواس الثلاثة للفرجة على بنات السياح اليهود الآسرات, نلوح بمودة للسياح الذين أتوا من شتى بقاع الأرض لرؤية آثار «بومباي الشرق», ونحن نشتمهم بسخرية مبطنة دون أن يفقهوا شيئا, ملوحين لنا بدورهم في مرح أبله!.. أو نتسابق في صعود درج الحجر الطويل الشبيه بهرم «الانكا» المدرج والمؤدي للمنازل القديمة فوق, أو نهبط لحيث المواصلات بالمجمع, نصعد متن حافلة عتيقة خط سير رحلتها إلى مدينة ملاهي الجبيهة, حيث نلتهم الفشار المملح وحلوى غزل البنات الوردي, ونركب قطار الموت السريع, وهو قطار موت حقيقي لأن مفاصله صدئة!.. حتى أننا كنا نتراهن دوما قبل الركوب ما إذا كان سيسقط بنا هذه المرة أم لا!..
وعندما يحل المساء, ونرجع مع يقين من أن ليلتنا لن تمر على خير لدى أهالينا, كنا نتسلل لذات البناية الغريبة عنا كي ننام على سطحها دون مسائلة من أحد, حيث نختلس النظر إلى نافذة البناية شبه الملتصقة ببنايتنا, فتشده أبصارنا كالمعتاد لمرأى المدرسات الشابات العازبات اللواتي يقطن شقة الطابق الثاني, يرحن ويجئن بقمصان النوم القصيرة ذات الأكتاف العارية!..

الصفحات