أنت هنا

قراءة كتاب ذاكرة الماء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ذاكرة الماء

ذاكرة الماء

ذاكرة الماء محنة الجنون العاري؛ لا شيء في هذا الأفق، لا شيء أبدا، سوى الكتابة وتوسّد رماد هذه الأرض التي صارت تتضاءل و تزداد بعدا كل يوم. وهل للماء ذاكـــرة؟
هذا النصّ يجهد نفسه للإجابة عن بعض مستحيلاته بدون أن تخسر الكتابة شرطها.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 7

(2)

4H -15 MN
جلست على الكرسي ثم اتكأت على الطاولة التي تعدّ عليها فاطمة صورها وأشرطتها.
فتحت رزمة الأوراق عن آخرها. شعرت بالرطوبة تصعد منها بقوة، لتستيقظ حساسيتي من جديد. قفزت إحدى القصاصات الصحفية أمام عيني، كانت أطرافها قد صارت صفراء مثل كتاب ديني قديم.
الإدارات الوطنية، والمؤسسات معنية بالتغيير الذي تم في ترتيب أيام الأسبوع. وعليه يصبح يوما الخميس والجمعة هما نهاية الأسبوع بدل السبت والأحد. ابتداء من الغد يصبح هذا الترتيب الجديد سارياً. جريدة المُجاهد(...)197
لم تكن الورقة تهمني كثيراً. كنت مأخوذاً ببقية الكتابات القديمة التي كانت، كلما قرأت حروفها تقذف بي بعيداً نحو ذاكرة مجروحة وقلقة.
وها أنْتِ. مريم.وسط رماد الأبجدية، تأتين دفعة واحدة، بكلك أو ببعضك. تضعين أحمر الشفاه ثم تتركين قبلة على المرآة وتكتبن تحتها. (أحبك) . تفعلين هذا عندما تضطرّين للخروج قبل دخولي إلى البيت.
عاداتك لم تتغير منذ مدة طويلة. منذ أن تعارفنا في تلك المدينة الساحلية التي لا اسم لها سوى زلازلها المتكرّرة. في المرّة الأولى حُطّمت عن آخرها. ثم حطمت ثانية وثالثة، لتبنى بعد ذلك بعيداً عن مكانها الأوّل، مدينة أخرى، بأسواقها، وبحرها، وبناياتها، لا يدخلها إلاّ المحظوظون. قُلْتِ:
ـ هل يغريك البحر ؟
ـ يملأني دائماً.رفيقي، منذ أن سرقت منّي حيطان هذه المدينة أجمل صديق. عشقته خارج المعتقل، وازددت التصاقاً به وهو يبحث عن حروفه الضائعة بين الحيطان العالية. كان يكبرني بعشر سنوات، وكنت مراهقة. كان شعلة من الوعي، مسيّساً وكنت طفلة. أعشق وأمحو قبلات النهار لأستعد للغد القريب. لكن معه الأمور تغيرت كثيراً. أُصبْتُ بكل حالاته، قبل أن تتهاوى الأسوار التي بنيناها مع بعضنا بعضً، وقبل أن أعرفك في تلك الليلة الشتوية الباردة في ذلك النزل الذي يشبه القلعة وبتنا متعانقين حتى الصباح. كنت في حاجة إلى رجل. إليك. إلى صوتك، وليس إلى حطام آلة، كلما رأيتها ارتسم في ذهنها المخدع المصنوع بالأغطية. المخدع؟
ـ أووف.. تلك كذلك قصة أخرى قاسية. ألومه أم ألوم نفسي؟؟ أشعر أن أشياء كثيرة تكسرت في داخلي، بعضها انقرض نهائياً، وبعضها الآخر، يتهاوى الآن بدوره قطعة قطعة كأحجار الوديان التي ساخت التربة التي كانت تتكئ عليها.الدنيا كانت واسعة عندما كنّا صغاراً، وعندما كبرنا ضيّقوها علينا. صرتُ امرأة في غابة موحشة.كلّ يوم أحد وأربعاء، أحمل حوائجي وانزل باتجاه السجن المركزي. خمس سنوات، بدون أن أتغيب يوماً واحداً عن طقوسي. في أيّامه الأولى كان فرحاً رغم قساوة المعتقل. كان سعيداً، لأن وجوده في هذا المكان، معناه أنه كان يحتل جزءاً من ذاكرة السلطة المرتبكة. ذات مرّة فاجأني وهو يقهقه مع زملائه بأعلى صوته و هو يقول: شَفْتِ يالاَلّه مريم. لقد صار لنا مخبأ صغير. عش عصفور، نمارس فيه حقنا في الحب والحياة.
كان العش مخدعاً، عبارة عن قماشات حُوّلَتْ في شكل مربع ، بداخلها مَطرح عسكري، من الكْران القديم. نفعل فيه ما يفعله جميع الأزواج الذين يُسمح لهم بالزيارات. نختبئ. لا ننزع ثيابنا. نندفع بعنف، نحو لذّة مسروقة، ندفع ثمنها داخل الصمت والشرط اللاإنساني. بسرعة، لنترك المكان للمنظرين بعدنا. بعدها صار المخدع جزءًا من مخيلتنا. كلما دخلتُ عليه، ارتشقت عيناه نحو مربع القماش الأبيض.
بعدها صار صامتاً مثل الخوف.
لم يعد يتحدث عن عش العصفور.
عندما ننتهي من المخدع، نجلس قبالة بعضنا البعض. ينظر إلي ملياً. أتأمّله. أكتشف لأوّل مرّة الشعرات البيضاء التي تحاول أن تختبئ عبثاً مع بقية شعر رأسه. ذات أربعاء، لم أعد أتذكر لا شكله ولا لونه. كان المفترض أن أتغيب عنه لأوّل مرّة بسبب اجتماع لجنة حقوق الإنسان التي دفعني نحوها، للإنضمام إليها، وفعلت ذلك بدون ندم، إذ اكتشفت ما يختبئ من صرخات وراء الحيطان العالية. حتى هذه المرة لم أتغيب، لأن الاجتماع أُجّل لوقتٍ لاحِق. فكرت في مفاجأته، ربما تغيرت أشكال الأسوار التي بدأت تصعد بيننا. عندما دخلت عليه شعرت بارتباكات كبيرة على أوجه أصدقائه. كانوا محرجين لشيء لم أكن أدركه. انسحبوا فجأة. رأيته يخرج من المخدع، تتبعه ثريا صديقتنا المشتركة. أدركت منذ تلك اللحظة وبشكل نهائي، أن الأشياء التي كانت تجمعنا صارت ضئيلة.
تعبتُ منه، وتعب منّي كثيراً.
غبتُ عنه والتقيت بك.

الصفحات