على الرّغم من كلّ ما قد يقوله المتزمّتون، وما قد يتندّر به السّاخرون من أنّني تخلّيت عن الوقار في كهولتي، وقد كنتُ وقورًا رصينًا في كلّ ما كتبت في شبابي، وعلى الرّغم كذلك ممّا قد يتبادر إلى أذهان بعض البسطاء من أنّني قد أردت بهذه الرّواية أن أدغدغ عواطف الم
أنت هنا
قراءة كتاب ليلة في القطار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
وهنا رجلٌ يقود بيده طفلًا، يقف به أمام عربة، ويبتاع له شيئًا يأكله، وآخر يقف عند عربةٍ أخرى وبيده زجاجة يجرع ما فيها من شراب، وطفلة تستحثّ أمّها على أن تشتري لها علبة بسكويت، أو قطعة كعك، أو زجاجة شراب.
وعلى شبّاك التّذاكر رجالٌ ونساءٌ يقفون في الصّف لشراء التّذاكر، وفي صالات الانتظار ازدحام، أناس يجلسون على مقاعد، وإلى جانبهم أكوامٌ من الحقائب والأمتعة، وآخرون يقطعون الصّالات جيئةً وذهابًا وهم يدخّنون، أو يتجاذبون الحديث دون جلبةٍ أو ضوضاء، وفي الممرّات وأمام البار وعلى موائد المطعم، وأمام كشك بائع الكتب وصحف كثيرون في غدوٍّ ورواحٍ.. حركة لا تهدأ، وحياة تجري على أقدامها غير متمهّلة، ولا متلكّئة.
وأنا منذ نحو ساعة أتجوّل هنا وهناك، حقيبتي في مستودع العفش الكبير في بناء المحطّة، وآلة التّصوير تتدلّى من كتفي إلى جانبي، وتارةً أقف أمام كشف الصّحف والكتب أتفرّس فيها وأقرأ العناوين، ومرّة أمضي إلى الميناء القريب أنظر إلى البحر والسّفن والقوارب الواقفة أو الذّاهبة الآيبة، بعضها بلون الحمام الأبيض، وبعضها بلون الصّدأ، أو بألوانٍ أخرى متنوّعة، وحينًا أعود إلى التّجول على رصيف المحطّة، وأنظر إلى ساعتي لأرى كم بقي على موعد دعوة الرّكاب للصّعود إلى عربات القطار، وطوروا أدخل إلى المطعم أستريح على أحد مقاعده، وأطلب من النّادل فنجان قهوةٍ مع الحليب (Cappuccino) ثمّ أمضي احتسيه على مهلٍ، وأدّخن سيجارةً، وأنظر إلى النّاس من حولي هناك:
هناك امرأةٌ تجلس على مقعدٍ بجانب الجدار، وعلى حضنها طفلٌ ترضعه، وإلى جانبها طفلٌ آخر لا يهدأ ولا يستقرّ، بل يظلّ يطوف في أرجاء المطعم كلّه، وهي تدعوه وتؤنّبه، فيصغي إليها حينًا ويعود إلى جانبها، وحينًا لا يجيب بل يظلّ يتنقل من مائدةٍ إلى أخرى، ومن حولها أمتعةٌ وحقائب ذوات أشكال شتّى، وهي تنظر إلى الباب كثيرًا؛ لعلّها تترقّب دخول زوجها ؛ ليعتني بطفلها الآخر الّذي يطوف في أرجاء المطعم، أو ليحمل إليها شيئًا ما من المدينة تضيفه إلى حملها في السّفر.
ويجلس غير بعيدٍ عنها شيخٌ تدلّى رأسه على صدره في نومةٍ مستريحةٍ في انتظار موعد سفر القطار.