كتاب " الفلسفة والتسامح والبيئة "، تأليف فريال حسن خليفة ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفلسفة والتسامح والبيئة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الفلسفة والتسامح والبيئة
3 - المعرفة والصراع بين الدنيوية والمثالية :
وعلمنة الحكمة من حيث مصدرها وطبيعتها تبلغ ذروتها عند السوفسطائيين ؛ حيث لا مكان عندهم للمطلق والثابت والكلى و الضروري والغيبي والمسلمات غير المشروطة .
" ومعنى الفلسفة عند السوفسطائيين يتطابق ومعنى المعرفة ، ولكنهم فهموا الحكمة بوصفها معرفة عالمية ، كالفن والبلاغة والبيان ، بمساعدتها يمكن للمثقف والمتعلم التغلب على الجاهل . وكان السوفسطائيون أول محاولة لإتمام المذهب الدنيوي عن الحكمة ، بأن جعلوها في متناول كل فرد وتكتسب بالتربية . هذا الملمح الديمقراطي عند السوفسطائيين يسير يدا بيد في توجيه مهمة الفلسفة من البحث في معرفة أو في فهم الجوهر والكلى . ليكون للفهم دور جديد هو من أجل الحياة الإنسانية أو حياة الإنسان ، فهذا هو الأكثر أهمية عند السوفسطائيين"(12) . أن تصير المعرفة نسبية ومتغيرة ويصبح الإنسان مقياس الأشياء جميعا .
وعند سقراط تبدو " الحكمة والمعرفة أمرًا واحدًا "(13) . وفي فهمه معنى المعرفة يعترض على ثئيتس بأن المعرفة لا هي الإحساس ، ولا هي الرأي الصحيح ولا هي تحديد أو تعليل مصاحب أو مضاف لأي رأى صحيح (14) .
ومرجع الخلاف بين سقراط وثئيتس هو الاختلاف في فهم موضوع المعرفة أو موضوع العلم وهو عند سقراط طبائع الأشياء وماهيتها الحقيقية أو المبادئ الأولى ، وهي لا تكون موضوعا للتعريف أو للبرهان فيقول:" المبادئ الأولى ، نظير العناصر ، منها نتركب نحن وسائر الأشياء لا تعليل لها ، إذ يمكن للمرء أن يسمى تلك المبادئ فقط ، ويستحيل عليه أن يصفها بأي صفة إثبات أو إنكار . أو أن يقول عن ذاك المبدأ إنه موجود أو لا موجود ، لأنه حينئذ يضيف إليه الوجود أو اللاوجود في حين أن المبدأ لا يحمل عليه شيئا إذا أردنا الكلام عنه ، ومن ثم لا يجب أن يحمل على المبدأ لا لفظة " ذاته "أو "ذاك " ولا " كل بمفرده "ولا " فقط " ولا " هذا " ولا غير ذلك من الألفاظ أو الكلمات الكثيرة المماثلة التي تطبق في كل مكان على جميع الأشياء…وعلى ذلك من المستحيل أن يعبر عن أي من المبادئ الأولى بتعريفه أو تحديده ، لأنه لا يملك إلا الاسم فقط"(15) .
" وعلى ذلك يعترف سقراط بأنه لا يملك شيئا من الحكمة ولكن الله يضطره إلى توليد الآخرين ، ويمنعه هو ذاته من الإنجاب ، فهو في ذاته ليس على شيء يذكر من الحكمة…والآخرون لا يتعلمون منه شيئا ، بل هم يجدون في ذواتهم معارف جميلة وافرة تتولد فيهم ، وسبب توليدها هو الإله وسقراط
بتوليده إياهم"(16) . ولكن لا توليد دون تهكم أو سؤال عن المجهول . وما يجهله ســـقراط هو ماهيات الأشـــياء فراح يسأل ما الخير ؟ وما الشـــر ؟ وما العدالة ؟ وما الظلم ؟ وما الشجاعة ؟ وما الجبن ؟
وفي محاورة Apology يقول سقراط :" أنا لا أعرف ولا أعتقد أنني أعرف "(17) . ويتوجه لعامة الشعب والعمال ويقول : إنهم يعرفون أشياء كثيرة أجهلها أنا ، فأنا جاهل بها ، ولهذا هم حكماء أكثر منى…إنهم اعتقدوا أنهم يعرفون كل أنواع الموضوعات السامية ، وهذا العيب أو القصور فيهم غيم أو حجب حكمتهم "(18) . هكذا كانت نظرة سقراط للمعرفة الإنسانية أنها ناقصة ومختلطة بالجهل وهو ما يمنع الإنسان أن يسمى نفسه حكيما .
وعند افلاطون نجد الفهم المثالي للفلسفة بوصفها محبة الحكمة أو محبة المعرفة ، وذلك بعد نزعها من أساسها الدنيوي الذي نجده عند السوفسطائيين والطبيعيين الأوائل . بينما الحكمة عند أفلاطون هي جزء من الطبيعة الإلهية ، فالطبيعة الإلهية هي الجمال والحكمة والخير"(19) .
وعلى هذا يقول : أن نسمى إنسانا حكيما فهذا في ظني كثير عليه وهو لقب لا يناسب إلا الآلهة ، ولكن حين نسميه مُحبًا للحكمة ( أي فيلسوفًا ) فأي اسم من هذا القبيل يكون مناسبا"(20) .
ومحبة الحكمة والمعرفة عنده هما شيء واحد لأن المعرفة تجعل البشر أحكم
وأكثر قدرة على التذكر ، فالمعرفة سر الحكمة والذاكرة "(21) . ولكن المعرفة عنده لا تكتسب بالتربية أو التعلم على نحو ما يؤكد السوفسطائيون . ذلك أن التربية عند أفلاطون هي أفضل سبيل لكشف المعرفة الموجودة أو إظهار من قبل في النفس الإنسانية ، والمغيم عليها بشهوات البدن وشواغل العالم المادى ، فالمعرفة على نحوما يؤكد في " فيدون " ليست اكتسابا بل تذكر لما حصلت عليه النفس عندما كانت تطوف بالعالم الآخر .
وفي محاورة " الجمهورية " تبدو المعرفة أمرا مستحيلا على طبقة العبيد ، فأقوى ملكاتها هي الشهوة ، ولا تنالها طبقة الحراس لسيطرة الانفعالات القوية على النفس . فالمعرفة الحقة خاصة بطبقة الحكام الفلاسفة .
" وهذا الفهم الأفلاطونى للفلسفة باعتبارها معرفة نظرية ملازمة في طبائع مختارة… يجعل الحكمة تكمن في معرفة الحقائق الثابتة المفارقة ( أي المثل ) التي هي مجاوزة لكل الشهوات الحسية والأشياء الطبيعية ومتطلبات الإنسان . وبذلك يخلق أفلاطون نسقا من المعرفة المطلقة ، وهو بذلك يختلف اختلافا جوهريا عن سقراط ؛ ذلك لأن أفلاطون قد هجر الفهم السقراطى للفلسفة من حيث هي محبة الحكمة أي محبة المعرفة المثالية والحياة المثالية التي هي بعيدة المنال . كما كان نقد أفلاطون للسوفسطائية متجهًا إلى نقد التصور الدنيوي للحكمة . بينما أفلاطون ينكر الأساس الدنيوي للحكمة"(22) .
ويقف أرسطو من تصور أفلاطون للمعرفة موقفا نقديا ، ويهبط بالمثل أو الأفكار من عالمها الإلهي المفارق ليردها إلى أساسها الواقعي ، فالحكمة من وجهة نظر أرسطو تتطابق والمعرفة العلمية ، لكنها ليست معرفة بالأشياء المفردة والجزئية ، بل بالأشياء الأكثر شرفا"(23) ، أي الماهيات أو الصورة أو الطبائع الجوهرية .
ومعرفة الماهيات أو الكليات ليست معرفة بعيدة المنال كما هو الحال عند سقراط ، ولا معرفة بالمثل المفارقة كما هو الحال عند أفلاطون ، لأن الماهيات أو الصور الجوهرية لا توجد عند أرسطو في عالم مفارق ، بل هي أشياء حقيقية، ومعرفة الإنسان بالصور تبدأ من التجربة الحسية وتنتهى بالتجريد .
فالعقل عند أرسطو يملك القدرة على تجريد الصور الجوهرية من واقع الأشياء ذاتها ، ويعتبرها معاني كلية أو عامة ، لا يسقطها أرسطو خارج العقل، ولا يقيمها في عالم مفارق كما يفعل أفلاطون . " وأرسطو يرى أن لكل شيء طبيعة جوهرية تتحقق بالتدريج خلال عملية تطوره ، وهذه الطبيعة الجوهرية هي ملك للشيء المذكور بغض النظر عن الظروف"(24) .
وإلى جانب الطبائع الجوهرية يقول أرسطو بالمحرك الأول أو صورة الصور، وهو الغاية الباطنة للأشياء ، وهو ذلك الذي يكون بمثابة إمكانية وهدف لكل شيء ينمو ، إنه مبدأ حياة العالم والهدف المتضمن في عملية نموه ، إنه المحرك الأول ، إلا أن الله لا يحرك العالم بالتأثير عليه ، بل بكونه الدافع إلى عملياته كلها ، تماما كما يحرك الشيء المرغوب الإنسان الباحث عنه ، أو يدفعه الخير الذى يريده إلى تحقيقه بأن يستحث إرادته"(25) .
والعقل هو الطبيعة الجوهرية للإنسان عند أرسطو " وفاعلية العقل هي التفكير ، والتفكير يقوم على النظر في موضوعات الفكر "(26) . وهى الطبائع الجوهرية ، وعندما يتجه التفكير إلى هذه الموضوعات يكون قريبا من الحكمة أو حكمة بالمعنى الحقيقي ، فالإنسان إذا حرم الإدراك الحسي والعقل صار شبيها بالنبات ، وإذا حرم العقل وحده تحول إلى حيوان ، أما إذا تحرر من غير المعقول ، وتمسك بالعقل فقد صار شبيها بالله ، وذلك أن العقل الذي نتميز به عن سائر الكائنات الحية لا يتحقق بصورة كاملة إلا في ذلك الشكل من أشكال الحياة الذي لا يعترف بالاتفاق أو الصدفة ، ولا بما هو عديم القيمــة " فالحكمة لا يوصف بها إلا الآلهة ، ولا تنسب للعقل الإنساني "(27) . ولكون طبيعة الإنسان تحددت بالعقل فليس لـه سوى مهمة واحدة ، وهي بلوغ المعرفة بالموجودات"(28) .

