كتاب " الفلسفة والتسامح والبيئة "، تأليف فريال حسن خليفة ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفلسفة والتسامح والبيئة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الفلسفة والتسامح والبيئة
2 - غاية النقد ، إعادة الترتيب العقلي للواقع :
إذا كان النقد هو القدرة على كشف التناقضات فإن النقد يصبح لا دلالة له إذا لم يملك القدرة علي تجاوز المنقود ، وتقديم شيء جديد ، وخلاف ذلك يجعل النقد سلبا ونفيا يفتقد إلى الإيجاب ، ومن ثم يمتنع الجدل وينتهي التطور . لذلك فإن القدرة علي تجاوز الواقع هي القدرة على إعادة ترتيبه ترتيبا عقليا فيكون بهذا الترتيب إبداعا جديدا أو فلسفة غايتها دفع الواقع إلى التطور على النحو الذي يريده الفيلسوف وموقعه في إطار القوى الاجتماعية .
وتأسيسا على ذلك تبدو كل فلسفة موقفا نقديا من الواقع ، بكل أحداثه ومشكلاته وأزماته ، ومحاورة الجمهورية لأفلاطون هي تعبير جيد يعيد فيها أفلاطون ترتيب واقع القوى الاجتماعية في المجتمع اليوناني بما يبدعه من نظرية في الدولة المثالية ، والإدارة الحكيمة العاقلة ، وحكومة الفلاسفة ، فذلك هو في نظر أفلاطون الترتيب المعقول للمجتمع اليوناني من أجل سلطة الأرستقراط القديمة في مقابل ديمقراطية الغوغاء والتي يعتبرها أفلاطون هي المسئولة عن إعدام سقراط ، فيكتب نظريته في الدولة المثالية وحكم العقل . وبفضل حكم العقل يتحقق التناغم بين الطبقات في المجتمع ، وفيه يحدد أفلاطون لكل إنسان موقعا طبقيا ثابتا ووظيفة خاصة ، أيا كان الإنسان عبدا أو حارسا أو فيلسوفا، والدولة تكون عادلة عندما تقوم كل طبقة من طبقاتها بوظائفها الخاصة ولا تتدخل في شئون الطبقة الأخرى .
وذلك هو الترتيب العقلي في نظر أفلاطون للواقع في شكله المثالي ، وهو الذي يعيد لأرستقراط اليونان واقعهم المتميز المفقود في ظل ديمقراطية المجتمع العبودي ، والتي تبدو الفلسفة السوفسطائية مدعمة لها خلال نظريتها في المعرفة والوجود " ذلك أن رد المعرفة إلى الحس وما يترتب عليه من نسبية الحقيقة ، - وهو ما قال به السوفسطائيون - إنما يعني من الناحية العملية تعدد وجهات النظر ، وما دام الحق نسبيًّا فإن سائر وجهات النظر صحيحة ، كل بالنسبة إلى صاحبه ، ومادام الأمر كذلك فلا سبيل إلى حسم الخلاف بين وجهات النظر إلا بالطريق الديمقراطي . وفي مقابل الموقف السوفسطائى يقول أفلاطون : الحق واحد ، وهناك مثال واحد للصواب لا يتغير ، وهذا معناه من الناحية السياسية أنه لا حاجة بنا إلى الديمقراطية ما دام قد وجد الحاكم المستنير القادر على أن يتعرف على هذا المثال الواحد للخير ، ويفرضه فرضا على المجتمع "(41) .
وإذا انتقلنا إلى القرن الثالث الميلادي ، حيث الوضع ينذر بانهيار الإمبراطورية الرومانية لكونها عاجزة عن حل تناقضات المجتمع العبودى ، وعمت بوادر الانهيار في كل من أرجاء الإمبراطورية ومدنها الكبرى ، وظهرت الأفلاطونية المحدثة وقطبها البارز أفلوطين ( 205-271 ق . م ) ليعيد ترتيب واقع الإمبراطورية الرومانية المنهار كي تنهض من جديد .
ويجعل أفلوطين العقل أساس الوجود ، ومبدأ الفعل أيا كان الفعل إرادة أو اضطرارًا ، وما يهدف إليه أفلوطين من فلسفة الفعل في عصر تدهور الإمبراطورية هو أن ينوه عن معنى تدهور العلم وانحداره ، كي ينظر لإمكانية النهضة من جديد ، إمكانية فعل الصعود والعودة إلى العقل ، فتكوين الوجود المعقول والمحسوس هو فعل طبيعته اضطرار ، والنهضة والصعود فعل وهو في طبيعته فعل إرادي ، وتدهور العالم يأتي من توجه الإنسان وانغماسه فيما هو أدنى من العقل"(42) .
وغياب العقل هو تداعي العالم، وهو ما تعاني منه الإمبراطورية الرومانية، ولا سبيل إلى الخلاص إلا بالعودة إلى العقل ، والعودة فعل ، ولكنه ليس فعل الغوغاء ، ولا فعل الطبقة الوسطى ، بل هو فعل الصفوة الفضلاء ، وفعلها هو حكم العقل ، حكم الأرسقراطية"(43) . ومن ينفك عنه العقل مصيره إلى زوال . وانفك العقل وانهارت الإمبراطورية الرومانية ، وواكب انهيارها في الغرب والشرق على السواء هيمنة الأديان على مختلف جوانب الحياة ، وأصبحت إيديولوجيات العصر .
في الشرق الإسلامي نجد الفارابي (44) في كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة "يعيد ترتيب واقع الخلافة العباسية الآخذ في التدهور ، ويقدم تصورًا للمدينة الفاضلة التي يعتلى قمتها الفيلسوف أو النبي ولكن للفيلسوف الأولوية ، وتقدم الفيلسوف عن النبي هو تقدم العقل على الوحي ، تقدم العقل ( أو القوة الناطقة في النفس ) وهو امتياز الفيلسوف على ملكة التخيل وهو امتياز النبى . ويشكل الفارابي المدينة الفاضلة كيانًا عضويًا حيًا يتعاون أعضاؤه على حفظ حياته ، ويرتب الطبقات الاجتماعية ترتيبا هرميا ، وفقا للطبع والهيئة عند البشر ، والطبع فطرة والهيئة اكتساب ، وعلى قمة الهرم يكون العضو الرئيس فيلسوفا أو نبيا . ولأن محمدًا هو آخر الأنبياء ، فلا يبقي أمام الفارابي سوي الفيلسوف .
وفي القرن السادس عشر الميلادى يعيد ميكافيللي في كتابه " الأمير" (45) ترتيب العلاقات بين الشعب والحاكم ، استنادا إلى مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " كما كان نقده للسلطة الدينية تمهيدا للعلمانية .
وتوماس هوبز في كتابه "التنين"(46) يعيد تأسيس السلطة الحاكمة في المجتمع ، من الحكم المؤسس على الحق الإلهي إلى الحكم المؤسس على العقد الاجتماعي . وينزل الحاكم المطلق من شرعيته الإلهية إلى شرعية اجتماعية صادرة من الشعب كله بواسطة العقد الاجتماعي .
وكذلك نجد جون لوك في القرن السابع عشر الميلادي يعيد ترتيب الواقع الأوروبي المتناحر ترتيبا عقلانيا بالدعوة إلى التسامح الديني ، والدولة العلمانية في مواجهة الاستغلال السياسي للدين ، ودفاع عن حق الفرد وحريته في التفكير والاعتقاد والاختلاف ، ودفاع عن التعددية الدينية ، يميز لوك عمل الحكومة المدنية من عمل الدين ، يدعو إلى إقامة الحدود الثابتة الفاصلة بين الكنيسة والسياسة ، لينتهي من ذلك أنه ليس من حق أي فرد حاكما أو بابا أو أي إنسان الاعتداء باسم الدين على الحقوق المدنية للبشر ، فللدولة السياسية مجالها وحدودها ولا يجب الخلط بين الاثنين ، والعلمانية عند لوك لها أساس معرفي يطرحه في الكتاب الرابع من " بحث في الفهم الإنساني " عندما يجعل المعرفة الإنسانية محدودة بحدود قدراتنا المعرفية أي الحس والحدس والبرهان . وما يصل إليه الإنسان من حقائق هو معرفة من إطار قدراتنا المعرفية ، وهي معرفة لا تكشف عن الطبيعة الحقيقية للموجودات المادية أو الروحية ، وبالتالى يبقى الصراع بين أهل الحمية - ملاك الحقيقة المطلقة - صراعا لا أساس له من المعرفة أو العقل ، ومن ثم على الإنسان أن يلتزم بالتسامح الديني والعلمانية كنظام اجتماعي ، فالحقيقة المطلقة ليست في متناول الإنسان"(47) .
وفي القرن الثامن عشر الميلادي يعيد روسو تأسيس المجتمع السياسي على النحو الذي يعيد السيادة لصاحبها الحقيقي وهو الشعب صاحب الإرادة العامة . والإرادة العامة هي العقل الذي يصبح بالعقد الاجتماعي والاتفاق بين البشر قانونًا عامًا . فالإرادة تتحقق بممارسة فعلها ، وفعلها هو التشريع وهو وجودها وحياتها ، وتشريعها هو القانون الذي يربط الحق بالواجب"(48) .
وفي القرن التاسع عشر الميلادى نجد أن هيجل في كتابه " فلسفة الحق " يتجاوز التناقض بين الإقطاع والبرجوازية في ألمانيا من خلال الملكية الدستورية ، وهى تعبير عن وحدة الحق الذاتي والموضوعي ، وحدة الكل والجزء ، وحدة الحرية والضرورة ، وحدة الحق والواجب ، فهي ضمان الوحدة وضمان الحرية .
وعند ماركس في " البيان الشيوعي " نجد تجاوز الواقع القائم فعلا ثوريا ، الجدل المادي أساسه ، ووحدة النظرية والممارسة منطلقه . والجدل ليس شكلا نظريا بل كشف للتناقضات الأساسية في الواقع المادي ، و هي التي تدفعه إلى الحركة والتطور ، وما يتولد عنها من صراعات اجتماعية أهمها : الصراع بين البيروليتاريا والبرجوازية ، وهو وجه التناقض الأساسي في المجتمع البرجوازي ، وهذا التناقض من خلق نمط الإنتاج الصناعي الحديث ، وحل التناقض هو مهمة البيروليتاريا ، ومهمتها هى تغيير المجتمع تغييرا جذريا أو كيفيا وتحويله إلى مجتمع جديد متحرر إنسانيا بفضل الثورة الاجتماعية الشاملة .

