كتاب " ذاكرة الفينيق " ، تأليف فرح محمد دياب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ذاكرة الفينيق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ذاكرة الفينيق
تقديم
وصلني، منذ سنوات، كتاب لفرح محمّد دياب. فضاؤه الطباعيّ شبيه بالفضاء الطباعيّ لقصائد النثر. وكانت فرح، يومها، تلميذة في المرحلة المتوسّطة. وما لفتني ليس الكتاب بحدّ ذاته، ولكن طموح هذه الطفلة الكبير، سلامةُ لغتها، وأسلوبُها الذي يفوق سنّها.
فكان أن اعتصمتُ بالصمت انتظاراً لقادم الأيّام. وكرّت السبحة كتابٌ ثانٍ ترعاه المدرسة، وثالث جيء به إليّ قصد إبداء الرأي بنشره. وجيء إليّ مع هذا الكتاب بقصّة طويلة وجدتُ فيها قدرات فرح الكتابيّة.
وفرح التي لم يحُل نشاطها الكتابيُّ دون أن تكون تلميذة رصينة، جادّة، ناجحة، تمثّل ظاهرة تستدعي الدرس. يصلك أسلوبها الكتابيّ بأساليب كبار كتّاب الرواية. وإذا كان ارتباط الأسلوب بالثقافة وثيقاً يكون راقياً بقدر ما تكون ثقافة الكاتب عميقة، حضر السؤال الصعب: من أين لهذه الطفلة تلك الثقافة وهذا الأسلوب؟
شكّلت فرح ظاهرة بالأسئلة التي تثيرها كتابتها، بهذا القلق المعرفي الإبداعي الذي أحكم سلطانه على مشاعرها ووجدانها. كانت تتسقّط رحلة قصّتها من يدها إلى يدي إلى دار النشر بترقّب لافت. كانت أسئلتها التي تعصف بأمّها حين تعود من المدرسة عصراً أسئلة متمحورة حول أخبار القصّة. هل اتصل أحد بخصوصها؟ ماذا قال عن مستواها؟ هل هناك انتقادات صعبة؟
والقلق في مثل سنّ فرح ليس علامة نباهة فحسب، بل هو إشارة إلى ظاهرة إبداعيّة قيد التخلّق أيضاً، حتّى لكأنّها الزهرة وهي تبسط أكمامها لشمس الربيع تظلّ حريصة على ألّا تبذل كلّ أسرارها. وهذا ما يجعل عدوى القلق فاعلة في نفس من يراقب علامات البشارة بمستقبل مواسمها.
وإذا كانت مجموعات خواطرها السابقة التي أخذت طريقها إلى المطبعة بعض علامات مستقبلها الأدبيّ، فإنّ العلامة الأشدّ تعبيراً والأقوى هي هذه الرواية التي بين يدينا(الباكورة).
تتلازم فيها السِّيَرِيّةُ والخروجُ عليها. وشخصيّة (رحيل) فيها من (فرح) ما فيها، حتّى أنّها قد التبست بها في المسرحيّة التي قدّمها الطلّاب. واسم (رحيل) الذي أسبغته الكاتبة على بطلة روايتها، جاءت به من تجربتها الخاصة. ولعلّ تعميق رحلة (رحيل) في الرواية قد جاء عبر إسناد بطولة المسرحيّة إليها باسم جديد، هو (فرح) اسم الكاتبة. ولا يعبّر الإسمان المسبغان على الشخصيّة عن التمزّق النفسيّ المرّ الذي تعيشه الأديبة بين اسمها الذي ارتضاه لها والدها، وما صار إليه بعد رحيله فحسب، ولكنّه يعبّر عن قدرة الكاتبة على السفر من (رحيل) إلى (فرح)، على استعادة ما أراده لها والدها من اسمها أيضاً. والظروف التي ساقتها من (فرح) إلى (رحيل) ستعود فتفسح لها في المجال لكي تعبر من (رحيل) إلى (فرح).
إنّها تباشيرُ تبثّها الطفلة الأديبة. ولعلّ المسرحيّة التي حدّثها عنها والدها والتي «لم تبدأ بعد» على حدّ تعبيره، قد بدأت برحيله لترسم لها خارطة التحدّيات التي ستواجهها، ولتحدّد لها سبل التغلّب عليها. ووالد فرح ليس أباً عاديّاً ستكون سيرته القصيرة مادّة كتابيّة لها حين تبلغ مرحلة النضج الثقافيّ؛ لأنّها سيرة تستحقّ أن تُكتب.
وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ سيريّة هذه الرواية قد انفتحت، وبشكل جليّ، على تقنيّات تدلّ على المستوى الكتابيّ الذي يضجّ به قلم هذه الواعدة الوديعة. و(رحيل) لم تكن (فرح) العالم المرجعيّ في كلّ التفاصيل. ولا يوجد في حياة فرح ما يدلّ على أنّها تحاول «تجاهل تفاصيل الزمن». إنّها تراقب التفاصيل، وبعين متوقّدة، تفصيلاً تفصيلاً. وغرفتها الحقيقيّة ليست غرفتها الروائيّة. لم تملأ فراغها بكتب ميّتة. كتبها عامرة بالحياة والنشاط.
والخروج على السيريّة ليس خروجاً على الوظيفة الكشفيّة للأدب، ولكنّه علامة اقتدار فرح على توظيف التقنيّات بما يمكّنها من التوغّل أكثر داخل عالمها الذي يضجّ بالحياة المتفجّرة إبداعاً وزخماً. وهاجس الرحيل الذي يلاحقها، لن يتمكّن من بعثرة روحها، فروحها لها بكلّ ما في الكلمة من معنى.
26/10/2012
د.علي مهدي زيتون