أنت هنا

قراءة كتاب مقدمة في نظرية الأدب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مقدمة في نظرية الأدب

مقدمة في نظرية الأدب

كتاب " مقدمة في نظرية الأدب " ، تأليف عبد المنعم تليمة ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3
Average: 3 (1 vote)
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 1

تمهيد

يعكس الأدب ـ والفن عامة ـ علاقة نوعية بين الإنسان وعالمه. ولهذه العلاقة قوانينها الخاصة التي تميّزها عن غيرها من العلاقات الفكرية والعلمية.

ويرجع مصدر كل هذه العلاقات ـ وغيرها من كافة وجوه النشاط الإنساني وظواهره ـ إلى النشاط العملي للبشر. ذلك أن «العمل» المنتَج الذي يكون هدفه تحقيق غايات الإنسان هو الجوهر الأساسي لهذا الإنسان. لأن الإنسان كائن عامل، منتِج، وعمله الواعي الهادف هو حقيقته، وهو مصدر كل صور ثقافته، فنية وفكرية وتطبيقية وعلمية؛ فالفكر العلمي يحدد «الجوهر الإنساني» أو «الطبيعة الإنسانية» بتفاعل الإنسان مع الطبيعة، وسعيه إلى السيطرة عليها وإخضاعها بتوجيه قواها ومواردها لصالح وجوده، وأداته في كل ذلك هي عمله. ولم يخرج الإنسان من المملكة الحيوانية، ويتميز عن غيره من الحيوانات إلا عندما بدأ «يعمل» ويصارع الطبيعة، لينتج ما يفي بأغراض عيْشه. وبينما يحاول الحيوان أن يكيِّف نفسه وفقًا لضرورات الطبيعة وقوانينها وقواها، فإن الإنسان يوجه جهده للتغلب على تلك الضرورات والقوانين والقوى وقهرها والتحرر منها، بأن يكيف الطبيعة لنفسه وفقًا لمطالب حياته. وفي الوقت الذي يغير فيه الإنسان ـ بالعمل ـ الطبيعة ويكيفها حسب أهدافه، فإنه يخلق طبيعة ثانية، طبيعة إنسانية، هي «طبيعته» هو. فلقد تكونت للإنسان ـ في أثناء العمل ـ خصائصه، وتولدت قدراته ونمت طاقاته، وتفجَّرت إمكاناته.

والعمل عملية اجتماعية، الأساس فيها علاقة البشر بعضهم ببعض في مواجهة الطبيعة. إذ تنشأ بين الناس ـ وهم ينتجون عيْشهم ـ «علاقات إنتاج» تمثل النظام الاقتصادي للمجتمع، ومقوِّمه المادي، وبناءه الأساسي الذي ينهض عليه ويعبر عنه ويعكس حقائقه وعلاقاته بناء علوي ثقافي.

فالثقافة ـ كمصطلح اجتماعي علمي ـ بناء فوقي للمجتمع، تتبدَّى صوره في الفن، والأدب، والفكر السياسي والتربوي، والصياغات الفلسفية والعلمية والقانونية، والعادات والأعراف والمُثل العليا، والقيم المفسِّرة للسلوك العملي في هذا المجتمع.

والبناء الثقافي «الوعي الاجتماعي» في مجتمع بعينه إنما هو في مجمله ـ وفي شتى صوره ـ انعكاس للأساس الاقتصادي «الوجود الاجتماعي» في ذلك المجتمع.

إن ثقافة مجتمع محدد هي تعبير عن علاقات الإنتاج السائدة فيه وصياغة للحقائق الأساسية في واقعه المادي الموضوعي. أي أن الوجود هو الذي يحدد الوعي ويفسّره. لكن البناء الثقافي رغم أنه بصورة عامة انعكاس للبناء الأساسي المادي في المجتمع، فإنه ليس انعكاسا آليًا وليس تعبيرًا سلبيًا. فالعلاقة بين الاثنين علاقة تأثير وتأثر دائبة، قانونها التفاعل والتداخل. بل يمكن ـ في مرحلة من مراحل تطور المجتمع ـ أن تسبق الثقافة الأساس المادي وتعمل على تغييره وتقوده نحو هذا التغيير.

الأصل في بناء المجتمع أن الأساس المادي الاقتصادي لهذا المجتمع هو المفسّر لظواهره الثقافية. ومع ذلك فإنه لا يجوز تفسير الثقافة بذلك الأساس تفسيرًا ميكانيكيًا ضيِّقًا. إن حياة المجتمع من الخصوبة والغنى بحيث لا يمكن ردّ صورها الثقافية إلى العامل الاقتصادي وحده ردًا حرفيًا جامدًا. إذ يتضمن كل شكل من أشكال التعبير الثقافي جوانب فردية وعناصر ذاتية ومبادرات إنسانية خلَّاقة، تجعل منه ظاهرة مركبة معقدة، وتجعل تفسيره بعامل واحد تبسيطًا مجافيًا للعلم. فإن للثقافة، وهي معبرة عن الواقع وعاكسة لأساسه المادي، استقلالها النسبي عنه وتأثيرها الإيجابي عليه، وهي وإن عكست حركته فإنها في ذات الوقت أداة فذَّة لتغييره. كذلك فإن لكل صورة من صور الثقافة ـ روحية وفنية وفكرية وعلمية ـ ذلك الاستقلال النسبي، كما أن لكل منها نوعيته المميزة له، ولكل منها قوانين تطوُّره الذاتي. وعندما يعتد الفكر العلمي بالعامل الاقتصادي مصدرًا ومفسّرًا لصور الثقافة وأشكالها فإنما ليجعله العامل الأساسي ـ الأكثر تأثيرًا في محتواها والأكثر حسمًا في تطورها ـ وليس العامل الوحيد، كما أنه يعتد في ذات الوقت بالعناصر الذاتية والفردية الخلاقة في تلك الصور والأشكال، ويفتش عنها ويبرز أهميتها، كما أن الفكر العلمي يرجع بالأمرين معا ـ الاقتصادي والثقافي ـ إلى أصل واحد، هو العمل، باعتبار أن العمل هو النشاط البشري الذي يحوِّل موارد الطبيعة إلى ثروة، وتتحول خلاله العلاقات إلى ثقافة.

إن الثقافة ذات طبيعة اجتماعية لأنها راجعة إلى العمل كعملية اجتماعية، فهو مصدرها ومفسّرها، هذا هو القانون الشامل، ولكن لكل شكل من أشكال التعبير الثقافي «قوانينه الخاصة» التي لا تتناقض مع ذلك القانون إنما تعمل وفق حقائقه العامة، ويقوم الدرس العلمي لأي شكل من أشكال الثقافة على رده ـ أي هذا الشكل ـ إلى ذلك المصدر وتفسيره به والتعرف على نوعيته الخاصة، كما يقوم على بيان قوانين تطوره.

الصفحات