أنت هنا

قراءة كتاب شفرة الموهبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
شفرة الموهبة

شفرة الموهبة

كتاب " شفرة الموهبة " ، تأليف دانيال كويل ترجمه إلى العربية تامر فتحي ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 2

مقدمة

الفتاة التي قامت بتمرين شهر في ست دقائق

كل رحلة تبدأ بمجموعة أسئلة، وها هي ثلاثة أسئلة:

كيف يصنع نادي تنس روسي لا يملك مليمًا، وفيه ملعب واحد مغطَّى، أكثر من عشرين لاعبة متميزة وهو ما فاق الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها؟

كيف يمكن لمدرسة للموسيقى، يوجد عند مدخلها دكان متواضع، في مدينة دالاس بولاية تكساس، أن تخرّج جيسيكا سيمبسون وديمي لوفات(1)، وسلسلة متوالية من نوابغ موسيقى البوب؟

كيف تُخرِّج أسرة بريطانية فقيرة محدودة التعليم في قرية نائية ثلاث كاتبات عالميات؟

مكامن الموهبة أماكن مبهمة، والأمر الأكثر غرابة فيها هي أنها تنمو من دون سابق إنذار. أوائل لاعبي البيسبول من جزيرة صغيرة في جمهورية الدومينكان وصلوا إلى مباريات الدوري العام في الخمسينات، والآن هم أحد أهم تسعة لاعبين في الدوري الوطني. وفي عام 1998 فازت أول لاعبة جولف من كوريا الجنوبية بمسابقة اتحاد الجولف للسيدات المحترفات، والآن توجد خمس وأربعون لاعبة في مسابقة الاتحاد، من بينهن ثمانٍ ضمن الفائزات العشرين الأعلى مرتبة الحائزات على جوائز نقدية. وفي عام 1991 كان يوجد مشترك صيني واحد في مسابقة فان كليبورن للبيانو(2)، وفي المسابقة الأخيرة برز ثمانية صينيين، إنها وثبة متسقة انعكس أثرها في أعلى فرق الأوركسترا السيمفونية حول العالم.

تميل التغطية الإعلامية في التعامل مع كل مكمن للموهبة على أنه ظاهرة استثنائية، إلا أنهم جميعها في الحقيقة جزء من قالب أوسع وأقدم. تأمَّل ملحّني فيينا في القرن التاسع عشر، كُتاب إنجلترا في الحقبة الشكسبيرية، أو فناني النهضة الإيطالية التي تفجرَّت خلالها مدينة فلورنسا النائمة ذات الـ70 ألف نسمة فجأة بالنبوغ على نحو لم يُرَ له مثيل من قبل ولا من بعد. وفي كل حالة، تتردد الأسئلة ذاتها: من أين تأتي هذه الموهبة الباهرة؟ وكيف تنمو وتترعرع؟

الإجابة قد تبدأ مع مقطع فيديو لافت للنظر، يُظهر فتاة ذات وجه يعلوه النمش في الثالثة عشر من عمرها وتدعى كلاريسة. كلاريسة (ليس اسمها الحقيقي) كانت جزءًا من دراسة قام بها المتخصصان النمساويان في علم النفس الموسيقي، جيري ماكفرسون وجيمس رينوك لتتبع تقدم مستواها على آلة الكلارينيت على مدار عدة سنوات. رسميًا عنوان مقطع الفيديو هو shorterclarissa3.mov، لكنه يجب أن يطلق عليه: الفتاة التي قامت بتمرين شهر في ست دقائق.

على الشاشة لا يبدو بوضوح على كلاريسة أنها موهوبة. ترتدي سويت شيرت أزرق له غطاء رأس، وشورتًا رياضيًا، ويبدو عليها تعبير بليد بعدم الاكتراث. في الحقيقة، طيلة الدقائق الست المصوَّرة بالفيديو، تُصنف كلاريسة بأنها متوسطة موسيقيًا. وبحسب اختبارات تحديد المستوى التي قام بها ماكفرسون، وشهادة مدرِّسها ووالديها وشهادتها هي نفسها، فإن كلاريسة ليست عندها أية مَلَكة موسيقية. تفتقر إلى أذن موسيقية، وإحساسها بالإيقاع متوسط، والدافع لديها أقل من المتوسط. (في الجزء المكتوب من الدراسة حددت كلاريسة «لأني مفروض عليَّ» باعتباره السبب الأقوى للتمرين). إلا أن كلاريسة أصبحت مشهورة في الدوائر الموسيقية العلمية. وذلك لأنه في صباح يوم عادي سجلت كاميرا ماكفرسون هذه الطفلة عادية المستوى تقوم بوضوح بعمل شيء غير عادي. ففي الدقيقة الخامسة وأربع وأربعين ثانية، سرّعت كلاريسة من سرعة تعلمها عشر مرات، بحسب حسابات ماكفرسون. والأدهى أنها لم تلحظ حتى ذلك.

يُقدّم ماكفرسون المقطع إلينا قائلا: صباحًا، الوقت المعتاد لكلاريسة لكي تتمرن، بعد درسها الأسبوعي بيوم واحد. إنها تعمل على أغنية جديدة بعنوان «الزفاف الذهبي» وهو لحن وضعه في العام 1941، عازف الكلارينيت جاز ودي هيرمن. ولقد استمعتْ إليه بضع مرات. وهي تحبه. الآن ستحاول أن تعزفه.

تسحب كلاريسة نَفسًا وتعزف نغمتين. ثم تتوقف. تنزع الكلارينت عن شفتيها وتحدِّق في النوتة الموسيقية. عيناها تضيق. تعزف سبع نغمات، مفتتح الأغنية. تنسى آخر نغمة وعلى الفور تتوقف، وبحركة فجائية واضحة تنزع الكلارينت عن شفتيها. ومرة أخرى تنظر شذرًا للنوتة وتغني المقطع بنعومة. «داه داه دوم داه».

تبدأ من جديد وتعزف اللازمة الموسيقية من البداية، مُضيفةً بضع نغمات من الأغنية هذه المرة، ناسيةً النغمة الأخيرة، تعيد الكرَّة، مُحاولةً رأب الصدع. وتبدأ نغمات الافتتاحية في الجلجلة معًا، نغمات فيها حيوية وإحساس. وعندما انتهت من هذا المقطع، تتوقف ثانية لست ثوانٍ، وكأنها تعيد عزفه في ذهنها، وتتحسس بأصابعها الكلارينت كما تتخيل. تنحني للأمام، تأخذ نفسًا وتبدأ مرة أخرى.

الصوت سيئ جدًا. إنها ليست موسيقى، إنها خلطة متقطعة بطيئة من نغمات مليئة بالوقفات والهنات. المنطق السليم سيقودنا للتصديق بأن كلاريسة أخفقت. لكن في هذه الحالة المنطق السليم مخطئ تمامًا.

يقول ماكفرسون: «هذا أمر مذهل، في كل مرة أشاهد فيها هذا، أرى أشياء جديدة، باهرة على نحو غير معقول، وقوية. هكذا يتدرب موسيقار محترف يوم الأربعاء قبيل حفلة يوم السبت».

على الشاشة كلاريسة تنحني على النوتة الموسيقية، تحاول استبيان نغمة «صول-حادة» لم يسبق لها عزفها أبدًا. تنظر ليدها ثم إلى النوتة ثم إلى يدها ثانية. تدندن المقطع. وضعيَّة كلاريسة المائلة للأمام تجعلها تبدو وكأنها تمشي في مهب ريح باردة، بينما وجهها اللطيف المنمَّش مقطَّب الجبين. تعزف الجملة الموسيقية مرارًا وتكرارًا. وفي كل مرة تضيف طبقة من الروح والتناغم والإيقاع المطرد.

«انظروا لذلك!» يقول ماكفرسون، «لقد صار لديها مخطط في رأسها تقارن نفسها به باستمرار. إنها تعمل على الجمل الموسيقية والأفكار الكاملة. إنها لا تتجاهل الأخطاء، بل تسمعها وتصلحها. تضع الأجزاء الصغيرة بما يتلاءم مع مكانها ككل، تدقّق النظر طيلة الوقت، تبني لنفسها سقَّالة لترتقي بها الى مستوى أعلى».

ليس هذا تمرينًا عاديًا. إنه شيء آخر: عملية استهداف عالية لتحري الخطأ. إنه شيء ينمو وينبني. الأغنية تبدأ في الخروج ومعها تخرج ميزة جديدة داخل كلاريسة.

يستمر مقطع الفيديو. بعد التمرن على أغنية «الزفاف الذهبي»، تمضي كلاريسة في العمل على القطعة الثانية وهي بعنوان «الدانوب الأزرق». لكنها هذه المرة تعزفها مرة واحدة، بلا توقف. ومن دون أن تلتفت إلى الوقفات الصارخة، يخرج اللحن متعثرًا، في قالب متناغم مألوف لكن يصاحبه صرير من حين لآخر.

يتذمر ماكفرسون: «إنها تعزف وكأنها تقف على ممشى متحرك. إنه أمر مريع تمامًا. إنها لا تفكر ولا تتعلم، ولا تبني، إنها فقط تضيّع الوقت. إنها تنتقل من السيئ للعادي للفذ ثم تتراجع ثانية، ولا فكرة لديها أنها تفعل ذلك».

الصفحات