كتاب " جبل الزمرد " ، تأليف منصورة عز الدين ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب جبل الزمرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

جبل الزمرد
«محال أن أنال صحبتك، لهذا أصاحب غبار طريقك»! اعتاد أن يكرر قول فريد الدين العطّار، فأعرف أنها رسالة موجّهة إلّي، أحدس أني مَن سوف يصاحب غبار الطريق، وأن حياتي برمّتها ستضيع على الطريق المستحيل إلى وطن يسكن الكلمات. هشة، متعبة، تنهشني الأفكار والشكوك والهواجس، كان مقدرًا لي أن أخطو مخفورة بالغبار.
في الثامنة عشر من عمري، غادرتُ شبه مجبرة، بسبب تصميمه أن مكاني لم يعد حيث يقيم، وأن عليّ بدء رحلتي وحدي، لم أحمل في حقيبة السفر سوى ملابس قليلة كي تتسع لأكبر قدر مما حمَّلني إياه من مخطوطات وكتب وأوراق. في ذاكرتي كانت تضطرم مئات التفاصيل، وفي مفكرة صغيرة، قبعت أسماء مدن أعبر بعضها سريعًا كما يفعل عصفور قلِق، وأنظر لبعضها الآخر من علٍ نظرة طائر، وأقيم في القليل منها لسنوات تطول أو تقصر. مدن تبدأ من نيويورك حيث كان يفترض بي إكمال دراستي، وتنتهي في القاهرة التي فهم من علامات ونبوءات، مبثوثة في ثنايا ما ورثه عن أجداده، أنها محطتي الأخيرة التي سأجد فيها ما أبحث عنه، القاهرة حيث أجلس الآن - بعد مرور اثنين وثلاثين عامًا على توديعي له - أنسج الكلمات لأحيك ثوب الحكاية الناقصة من كتاب «الليالي».
«أي حكاية تلك؟ نعرف حكايات كثيرة أُضيفت إلى «ألف ليلة وليلة»، لكننا لم نسمع بحكاية معينة نقصت منه، ثم إنه ليس كتابًا واحدًا، إنما نص لا نهائي لا يني يتغير عبر الإضافة والحذف!».
هذا ما سوف يجول بذهن من يقرأ ما أدوِّنه، لكن اسمحوا لي أولًا أن أضم أشلاء حكايتي جنبًا إلى جنب! ولتسامحوني إذا لم تتضح لكم معالمها سريعًا، ولتعلموا أن من أصعب الأمور القفز بين الأزمنة والتواريخ ومصالحة ماضٍ سحيق مع حاضر مُعاش. الصبر صيّاد، فليكن الصبر رفيقكم، كما كان ولا يزال رفيقي الوحيد على دربي الوعِر.
كان الصبر معي، قبل سنوات قليلة، في طريقي لذلك البيت الريفي البعيد عن العمران. في تلك اللحظة كنت مغمورة بخجل طارئ من نفسي لانسياقي وراء ما سيراه الآخرون سرابًا.
لكن كلما زارني الشك تراءت لي علامة تعيد لعالمي اتساقه، وتضفي على رحلتي معناها. علامتي في تلك المرة أن البيت، القابع في بقعة تبعد كيلومترات عن القاهرة، مطابق للوصف القديم المدوَّن في أوراقي!
بناء طيني محاط بسياج من أعواد القش، تظلِّله شجرة توت ضخمة، وتحيط به أشجار كافور. سرقتني الرسوم المطبوعة على بابه الخشبي العتيق: باخرة حُجَّاج ونخلة مثقلة بالتمر وطائر ضخم يستعد للانقضاض على فريسة نسيَ الرسام أن يرسمها. بصعوبة، انتشلت نفسي وطرقتُ الباب.
طرقة واحدة على استحياء، تلتها طرقات أخرى بوقْع أشد، حتى فتحت لي صاحبة البيت وحارسته. كانت كما تخيلتها تمامًا: سمراء، نحيلة، مطفأة النظرة، تربط رأسها بعصابة سوداء، وترتدي جلبابًا فضفاضًا باللون نفسه، لم أعرف ما ينبغي عليّ قوله، ولا كيف أبرّر زيارتي المفاجئة لها. لحسن الحظ وفَّرَت عليّ الكلام.
« استنيتِك كتير».
قالت ثم أنزلت لمبة الكيروسين المعلقة بمسمار إلى الحائط، أطفأتها بنفخة من فمها:
« نور ربنا كفاية».
نظرتْ إلى السيجارة التي أشعلتُها، وأشاحتْ بوجهها بعيدًا. تشاغلتْ بالعبث في ثنيات ثوبها الفضفاض، وإن ظلتْ تتابعني خلسة، وترمق شعري المتناثر بلا انتظام فوق كتفي، وملابسي القصيرة، ونهمي للسيجارة التي أمتصها. تأملت بدوري جسدها الضامر ووجهها المتغضّن، خمّنت أنها بلغت الخمسين لتوِّها، وهنأت نفسي على مظهر لا يدل على سنّي الحقيقية، لن يصدق أحد أن الفارق بيننا بضعة أعوام.
سألتها عن الغرفة، فأشارتْ إليها. فتحتُ الباب فباغتتني الحيطان العارية، ورائحة بخور نفَّاذة. أغلقتُ الباب خلفي، خلعتُ حذائي، وخطوتُ حافية على الحصيرة الخوص النظيفة.
بلا نوافذ، خالية إلاَّ من سرير خشبي ومنضدة صغيرة فوقها شمعدان فضّي به ست شمعات، وبجواره كتب قديمة مصفرة الأوراق. غبار أبيض غطى كل شيء. حاولت مسح بعضه بيدي، فلم أفلح، توقفت عندما تذكرت خطورة تعديل أي شيء في الغرفة، أو حكْي ما مررت به فيها، وضرورة ألا أغادرها إلا بعد مرور يوم كامل على دخولي لها، يوم أصوم فيه عن الكلام.