أنت هنا

قراءة كتاب الهوية والتواصلية في تفكير هابرماس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الهوية والتواصلية في تفكير هابرماس

الهوية والتواصلية في تفكير هابرماس

كتاب " الهوية والتواصلية في تفكير هابرماس " ، تأليف الناصر عبد اللاوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

مقدمة

دواعي المشكل ومبرراته

إذا ما تناولنا مسألة الهوية من جهة حيز اشتغالها في سياق الفكر الغربي المعاصر، فإن مسألة الهوية تعدّ إحدى المسائل الجوهرية في تفكير هابرماس النقدي، على اعتبار أنها واقعة فكرية تنطوي على جدة لم نفرغ بعد من استجلاء معناها. فهي تشكل بذلك مناظرات جديدة داخل الفكر الفلسفي المعاصر.

لقد تجذرت الهوية بكل عمق اليوم ضمن النقاشات السائدة في مقاربات الفلاسفة والمفكرين. واتسع مجال اهتمامها في خضم هذا الفيض المعرفي إثر التحوّلات التكنولوجية الهائلة التي انبجس حضورها في زمن العولمة. وهي تعتبر ثورة في المعلوماتية نتجاوز من خلالها الحدود وهي تمكننا من التواصل والتفاعل الثقافي والاقتصادي والحضاري. وهذا يعود بالأساس إلى وعي الدول الأوروبية لمحدودية تأثيرها منفردة في السوق العالمية والقرار السياسي العالمي. يقول هابرماس في هذا الغرض: «يتعلق الأمر بفقدانها أي الدولة الأمة القدرة على المراقبة مع تضاؤل المشروعية التي تضعف مسارات ممارسة القرار»(1). يعتبر النظام الرأسمالي أحد دعائمها الاستراتيجية متخذة الديموقراطية خياراً سياسياً باعتبارها تؤمن التعدد والتنوع في المعاملات التجارية. وقد تجاوزت المحلية لتكتسي طابعاً عالمياً وكونياً في الآن نفسه.«إنها تلك الإيتيقا التي تخص مواطنين ملتزمين بتحديد قرارات مشتركة ومعقولة في إطار منافسة...مفتوحة للكل وفي جميع الفضاءات العمومية»(2).

إن الهوية لم تعد تنطوي على مقولات منطقية جاهزة كما رسم ملامحها الإرث الميتافيزيقي الذي اختزلها في البعد الهووي - التأملي، وهذا ما يفسر حضورها في العالم المعاصر. وهو ما يبرر لنا منزلة الهوية من خلال الاعتراف بالآخر ككيان موجود بالفعل يخضع لبنية حوارية، إذ إنّ الالتزام بمبدأ الحوار يؤدي إلى الالتزام بشروط التعايش الديموقراطي الذي تكون فيه نظرية المناقشة فعلاً حوارياً يهدف إلى نحت «هوية جماعية ذات بعد كوني تتجسد من خلال جماعة سياسية تظل مفتوحة لاندماج كل المواطنين بمختلف أصولها»(3). حيث تتخذ صيغة الانفتاح خياراً فلسفياً يؤمّن لها التواصل داخل صيرورة وحركة جدلية. يعتبر الاختلاف والتنوع سمتين لتأصيل الهوية ضمن وحدة إنسانية. يقول ريكور في هذا المستوى: «احترام الآخر ليس من طبيعة مختلفة عن الاحترام الذي أبديه نحو الآخر لأن الإنسانية هي ما أحترمها في الآخر وفي ذاتي»(4).

تسمح الهوية في طابعها الكوني بإعادة النظر إليها كإشكال راهن لدى هابرماس من منطلق رؤيته النقدية التي اقترنت أساساً بالحداثة وفلسفة الأنوار. ولذلك فقد ربط هابرماس مسألة الهوية بالخطاب الألسني المعاصر الذي تدور رحاه حول فلسفة اللغة التي بمقتضاها يتجاوز الهويات الكلية النسقية المغلقة. حيث وقع استبدالها بالهويات الجماعية البديلة ذات الصبغة المعيارية والتواصلية. وخصوصاً أن الفلسفة المعاصرة شهدت تحولاً مركزياً في مناهجها وموضوعات بحثها اقتضت مراجعة ماسبق وتوجهت قدماً نحو إعادة البناء.

تقتضي الهوية المجالين الإيتيقي والفلسفي اللذين وجه من خلالهما هابرماس نقداً لاذعاً للعقلانية الأداتية. فقد بيّن هابرماس في المصلحة والمعرفة «أن المعرفة المطلقة قد ضعفت وتوارت حيث أصبحت انعكاساً للواقع، غير أن الفلسفة اليوم اتخذت منعرجاً جديداً يعنى بالقول الإيجابي والوضعي»(5).

إنّ الهوية كمشكل راهن تعبّر عن مقام انفتاح قيم المشتركين وفق بنى معيارية، تأخذ في نطاق تشكلها الأبعاد الرمزية وحركية الأزمنة والحراك الاجتماعي في ظل التواصل الإنساني وفق ما اقتضته «إعادة بناء الافتراضات الأولية الكليّة للمعايير والقيم»(6). وهذا ما يكشف لنا البعد الكوني الذي يقر بانفتاح الهويات على بعضها للإثراء الثقافي والاصطلاحي.

إذ يؤكّد أن النقد في غضون القصور الوضعي وفي ايديولوجيا تحمي العلم من التأمل الذاتي، حالما تطرح إجمالاً مسألة عقلنة السيطرة البعيدة المدى. ويأخذ هابرماس نموذج الولايات المتحدة الأميركية مبرزاً دور الدولة في توجيه العلم متوخية في ذلك الخيار السياسي.إذ يقول في كتابه العلم والتقنية كايديولوجيا: «الدولة التي تقدم إضفاء العلم على البراكسيس السياسي بأوسع مدى، إذ يدرك المرء كيف تطرح مثل المهمات الهرمينوطيقية في الجدال بين العلماء والسياسيين. وكيف تحل هذه المهمات دون أن تكون تحت سيطرة الوعي كما هي»(7). وهو بذلك يستعيد مفهوم الهوية في مقاربة إبستيمولوجية تترجم البعد الاستراتيجي في الفكر الإنساني بكل متطلباته ومستلزماته الفكرية والسياسية والإيتيقية. يحاول هابرماس بذلك دفع الخطاب الإنساني وتنشيطه في ظل المفارقات التي أحكمت علاقة العالمي- العولمي.

إن وجاهة البحث تستدعي منّا أولاً، اختيار عمل الفيلسوف حول مسألة الهوية المعيارية والملابسات والرهانات التي حدت بالفيلسوف أن يتخذ الهوية أفقاً يطرح فيها فكره المعاصر. ولعل كتاب بعد ماركس(8) وكتاب ما بعد الدولة - الأمة(9) اللذين تقصى فيهما الفيلسوف مسائل إيتيقية راهنة تعنى بالهوية والمواطنة، وهذا من شأنه أن يغير الخطاب السياسي إزاء المقاربات الفلسفية التي يسعى فيها إلى فكّ التخوم الضيّقة لفهم النزعة«الوطنية» المشروطة بحدود إقليمية.

يحاول هابرماس تطوير فكره من خلال راهن التحولات الفكرية حيث يبحث في مستوى آخر يستعيد وفقه إحداثية جديدة تسمى مافوق وطني. إن هذا الانزياح من مفهوم «الوطن» إلى «مافوق وطني» يكشف عن دينامية فكرية في فهم ملابسات العصر. يتخذ هابرماس الحوار مقاماً للتواصل الإنساني يهدف بالأساس إلى خلق نسيج هوية جماعية تفعل خطاباً مفتوحاً بغرض إدماج «كل المواطنين من أية أصول»(10) في عالم سيطر فيه العقل الأداتي على كل مكتسبات المعنى. هذا الطرح الهابرماسي يتسم بالتفاؤلية حيث يترك الحوار مفتوحاً بين جميع المشتركين في الفضاء العمومي. ولكن يتناسى الخصوصية التي تحكم كل مجموعة تريد الانخراط. وهو يتجاهل في الآن نفسه المفارقة التي تحكم الدول الغنية والأخرى الفقيرة.

الصفحات