أنت هنا

قراءة كتاب خطاب راكان في الزمان وأهله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
خطاب راكان في الزمان وأهله

خطاب راكان في الزمان وأهله

كتاب " خطاب راكان في الزمان وأهله " ، تأليف باسل عبد الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

في سن الثامنة عشرة، توجه شغفي باتجاه آخر. فقد اهتممت بالاطلاع على تاريخ الجزيرة وإلهها. فما عدت أكتفي بدروس كهنتنا بل توسعَت مطالعاتي لتشمل البحث في مكتبة القصر، وتحديداً في الزاوية المخصصة للمراجع الدينية، عن معلومات أكبر قد تشفي غليل شاب يبحث عن "إله ضائع" في كتب قديمة، إلهٍ لم يتَعَرّف إليه إلا من خلال تقاليد وطقوس غريبة، وتافهة في بعض الأحيان.

وجدتُ الكثير من المخطوطات: اثنتان منها منقولتان عن جدي الأول ياوار، والمجموعة الباقية منظمة من قبل أولاده وأحفاده وبعض الكهنة القدامى.

وقد تناولَت أغلب هذه الكتب أقوالاً للرسول ياوار وأخباراً عنه، وباسمه عن إلهه، وتعاليم وروايات نُقلت عن لسانه، أرشَد بها أولاده وأحفاده وقومه.

بالمختصر المفيد، أجمعَت هذه المخطوطات في مضمونها على ما كنّا قد تلقيناه من دروس دينية من قِبل كهنة القصر، وفحواها أن إله جزيرتنا يُريدنا أن نكون أتقياء وأن نكرِّس قلوبنا لمحبته وعبادته وفعل الخير ونبذ الشر ونصرة الحق والالتزام بدِيانة صاحب الوحي جدنا الأوّل ياوار. وتردد كثيراً في هذه المخطوطات ما فحواه أن ديانتنا ترتكز على الإيمان المطلق بإلهٍ أوحى رسالته إلى جدنا الأول وشرّفه باختياره لينشر دينه في كل أنحاء الجزيرة.

بالإضافة إلى هذه المخطوطات، وجدتُ كمّاً هائلاً من الكتب التي صاغها كبار الكهنة، والتي تُفسِّر وتوضح وتؤسس لطرائق العبادات والتقاليد. وهذه الكتب بالذات هي أكثر الكتب تداولاً في القصر، كما في شتى أنحاء الجزيرة. وقد أخبرني أحد الكهنة بفخر عندما سألته عن هذه الكتب، بأن سكان الجزيرة لا يزالون ملتزمين تعاليمها بحذافيرها حتى يومنا هذا.

***

أذكر أنني كلما قرأتُ من كتب تلك المكتبة عن مبادئ الخير والعدل والمحبة كنتُ أبتهج، وكلما قرأت عن العادات والتقاليد والسلوكيات المحددة لأبناء الجزيرة في العبادة كنت أنزعج. لكنني بالطبع، وكما اعتدت، كنتُ كلما شعرتُ بالامتعاض، أستغفر إله الجزيرة عن امتعاضي ووقاحتي!

سببُ الامتعاض لم يكن، بادئ ذي بدء، جلياً بالنسبة إلي. لكن، مع مرور الوقت وتصفحي لمخطوطات وكتب الجزيرة الدينية، توضحت الصورة أكثر فأكثر. فقد اكتشفتُ، في الحقيقة، تناقضاً كبيراً بين المضمون الإنساني لبعض المبادئ وبين معظم الممارسات والطقوس العديمة الفائدة بنظري.

وأغرب ما في الأمر كان الإشارة الواضحة من بعض كتب الكهنة القدامى إلى أن خلودنا كبشر لا يمكن أن يتم إلا من خلال اتّباعنا تلك الطقوس وممارستنا تلك الصلوات.

***

مرة بعد مرة، زادت انتقاداتي وتدنّت استغفاراتي. وشعور الذنب عندي بعصيان إله الجزيرة ضؤل تدريجاً إلى أدنى مستوياته. أما ما حلّ محله، فكان رؤية أكثر عقلانية تحدد وجهة الأمور حسب انطباع داخلي محض وبعيداً عن إملاءات ديانتي وتعاليمها.

وقد انعكس هذا التحول على حياتي العملية، وبدأ بالظهور بصورة أوضح أكثر أمام أهل القصر. فقد صرت لا أكترث ولا أتقيد بالالتزامات والطقوس الدينية المطبقة منهم، وحتى من الملك نفسه، واعتبرتها لا تعنيني بشيء.

***

وما لبث كهنة القصر أن لاحظوا ابتعادي التدريجي عن ممارسة الطقوس والعبادات التي التزم الجميع بها. فتلقيتُ أولى الملاحظات من كبير كهنة القصر بعد أن طلب الاجتماع بي.

بدأ كبير الكهنة لقاءه معي بتعداد مناقبي وحسناتي، ثم ما لبث أن انتقل إلى غرضه من اللقاء، فحاول بحنكةٍ يصبغها شيء من اللطافة، تأنيبي على عدم أدائي فروضي، وطالبني برفقٍ الإقلاع عن تصرفاتي الشاذة والعودة إلى الإيمان الصحيح الذي يتجلى من خلال الالتزام بالصلوات والطقوس الواجب على الأمراء ممارستها، معتبراً إياها فرضاً ضرورياً لتقدير إله الجزيرة وشكره على خيره الذي أغدقه علينا، وشرطاً لنيلي نعمة الحياة بعد الموت.

ولم يتردد في تذكيري، من باب المزاح، باللقب الذي أطلَقه عليّ بنفسه في صغري. فأنهى حديثه معي بالقول: "أنا لا أريد يا أميرنا العزيز أن يستمر لقب "الأمير الوقح" معك لأنه إن كان قد رافقك في صغرك فهو لم يعد يليق بك الآن! أليس كذلك؟"

ثم ضحك ضحكة ثقيلة عبّرت عن شيء من الاستهزاء، وانصرف من غير أن يكلّف نفسه انتظار أية إجابة مني!

أما التأنيب الثاني فقد جاء أعنف لهجة وأكثر حدة من والدي. فلا بد أن كبير الكهنة استدعاه كما استدعاني ليخبره بقصتي.

فقد دخل والدي مرةّ عليّ في غرفتي ليُصرح لي برفضه انكفائي عن الصلاة وممارسة الطقوس المفترض أداؤها من قبل الأمراء.

لكنني لم أصمت هذه المرة، بل فضّلتُ الصراحة مع أبي. أجبته إجابة أظنها بدت مثالية جداً، فحْواها أنني صاحب مبادئ خيِّرة، أتحدى أن يمتلكها أحد من أهل هذا القصر. ثم سألته: "أليس هذا ما يرضي الله، أن نفعل الخير ونرفض الباطل؟!... أنا أفعل هذا!!"

فردّ والدي باستهزاء: "يا سعادتي بك لو علم ملكنا أنكَ أعرَضتَ عن الصلاة والعبادة وتركتَ التزاماتك الدينية، عندئذ بالتأكيد سيضع اللوم عليّ، وسيعتبر أنه أخطأ حين قبل زواج أمك بشخص من خارج سلالته!... أهذا ما تريده أيها الأمير زايان؟"

قال والدي كلماته ثم أدار وجهه ونهض عن الكرسي، كمن أراد أن يُظهِر مقدار غضبه من هول جرم اقترفته، وهمّ بالخروج من غرفتي.

لكنني استوقفته قائلاً: "أبي؟ وما نفع أن نُصلي ونمارس التزاماتنا الدينية وعباداتنا، إذا كانت لا تتفق مع سلوكنا في الحياة؟... هل من العدل أن أحاسَبَ على لا شيء؟... هل قتلت أحداً؟...هل ظلمت أحداً؟... هل سلبت حق أحد؟... هل تعرضتُ لأحدٍ بالسوء؟"

التفت والدي إليّ بوجهٍ تلوّن بين الأصفر والأخضر - قصداً على ما أظن- وكأنه أراد التعبير عن حجم الغضب الذي جعلته يصل إليه، وقال: "ماذا تقول يا ولد؟!"

الصفحات