كتاب " رقصة التنين " ، تأليف مشهور مصطفى ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب رقصة التنين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رقصة التنين
رقصة التنّين
أأطرحه أم لا؟ ما هذا التردد القاتل؟ فالتعرق يزداد والبرودة تحتل مساحات جسمي ومسامي لا تتنفس. إنها تختنق!
على أونّة... على دوّي.. على تري... مبروك عليك. قالها السمسار لأحدهم، ثم تابع مستدركاً: اللي بعدو..
السلع تعرض تباعاً، سلع من كل نوع ولون، متباينة الأحجام والأقدار والقيمة، بشرية وحيوانية، وأثاث ومقتنيات...
إطرحه هيا ولا تخف، إنها ساحة المزاد.. ساحة لجميع الناس، إنها ساحة الوطن الكبرى، لن تجد أكبر منها مساحة طولاً وعرضاً، إنها دائرية ثم "من حضر السوق باع واشترى".
هيا.. إطرحه.. تشجع يا جبان.. لك في هؤلاء أسوة.. لا لا، من؟ هؤلاء؟ لا.. هؤلاء تسميهم ناساً؟ لا، لا، لن أطرحه. لكن اشفق على نفسك، ألا ترثي لحالك؟ ها أنت ترتجف في عز القيظ، وفمك جاف وقد تشقق لسانك وشفتاك، ثم ها قد بدأ يزيغ منك البصر، إنه دوار يصيبك الآن بسبب ضغطك الذي ارتفع...
لم يكن "معروف مختار" يدرك، عندما وصل الساحة العامة، ما ينتظره من مفاجآت، وهو ينوء بحمله الثقيل، ولم يكن يعرف أنه سوف يصل إلى هذه الدرجة من الإرهاق والذهول والتردّد، حين ارتفعت فجأة وازدادت جُرعة الحسّ الإنساني لديه، إنها نقطة ضعفه، إذ لطالما اعترف بينه وبين ذاته بهذه الناحية في حياته، عندما تجتاحه هذه الشحنة من الموروث القروي المعجون في معجن الطبيعة ونقاوتها وتلقائية العيش، وعفوية التعاطي مع أمور الحياة ومع الناس. فجأة، تحتل هذه الموجة من الإنسانية الخالصة كل كيانه، ليضعف أمام توحش الآخرين وماديتهم وعدم براءتهم.
لقد كان هذا حواراً داخلياً بينه وبين ذاته، ثم بدأت الأصوات الكثيرة الخافتة والقوية تغيب عن سمعه شيئاً فشيئاً.. سوف يسقط أرضاً، سوف يهوى بما يحمل على كتفه، فإذا سقط يكون طرح نفسه في المزاد بدلاً عنه أي عن ضميره، لكن ما الفرق؟ "تمالك نفسك يا رجل" مخاطباً ذاته. ما هذه الورطة يا ربي؟ يجب أن أصمم وأقرِّر بسرعة، لكن لماذا أتيت إلى هنا؟ لماذا صممت على البيع؟ الحاجة؟ أجل، الحاجة.. ليتني لم أتذكر ولم أنتبه.. أجل ليتني لم أتذكر ما قاله لي أبي ذات يوم: "إسمع يا بُني، عندما ولدتك أمك في ليلة طقس ماطر وزمهريري، قال لي أبي: "مبروك، وأتمنى أن تكون ضمائره قد ولدت معه".
وعندما سأل والد معروف أباه مستفسراً عن تلك الضمائر، أجابه: "إنها المتصل والمنفصل والمستتر".
وسأل معروف أباه، بدوره، "وهل كان جدّي يُحسن القراءة والكتابة؟ أجل، أجابه أبوه، بل قل إنه كان ضليعاً في اللغة العربية، ولولا ذلك، لما ذكر هذه الضمائر الثلاثة. ثم أضاف قائلاً، بعد أن اعتدل في جلسته: أظنه كان مستغرقاً في مزاحه المعتاد. ربما، أجابه معروف، لكنه قد نسي أن يذكر المتكلم والمخاطب والغائب. ضحك والد معروف وربَّت على كتفه، ثم نهض ومضى في حال سبيله. مات جد معروف وكان عمره حينها خمس سنوات وبالكاد يتذكره، في تفاصيله الجسمانية.
لكن الآن، يجد ذاته ملزماً بتصور كل تفاصيله، وبالبحث عن حالات ومواقف وإشارات تذكره به، لأنه الآن في بدايات الحروب الصغيرة، وفي خلالها وفي نهايتها.
لذلك يتذكّر كلماته لأبيه يوم ولد عن ضمائره الثلاثة بحسب ما قال أبوه، فما عساه فعل بها يا ترى؟ فهل كان قصد جدّه بسؤاله ذاك، خروج تلك الضمائر عن سلطة اللغة العربية وقوانينها وقواعدها إلى مناخات الحياة البشرية، إلى حالات الإنسان، فرحها وترحها، أمنها وقلقها، أملها ويأسها، (مع أنه يكره الأضداد) وسرائها وضرّائها، سعادتها وبؤسها؟