أنت هنا

قراءة كتاب خزين الذكريات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
خزين الذكريات

خزين الذكريات

كتاب " خزين الذكريات " ، تأليف عوض شعبان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

خزين الذكريات

عجيبٌ أمرُ هذا الذهن. فهو العضو الوحيد في جسد هذا الرجل السبعيني السقيم الذي ظلَّ ناشطاً. بل إن همّته لم تفتر طيلة هذه السنين الطويلة التي عاشها حتى الآن. وبقدر ما كان جسمه يعاني من الأمراض التي تفتك به، بحيث إنه في الآونة الأخيرة بات يقتات أدوية أكثر مما يقتات من الطعام، فإن ذهنه بقي متوقّداً يضجُّ بالذكريات التي تتحوّل مشاهدها السحيقة في القدم، إلى مرئيات جليّة أمام عينيه الكليلتين. وقد تغدو هذه المرئيات أكثر وضوحاً حين يطبق هاتين العينين مستسلماً لذكريات الماضي البعيد أو القريب، وإن كانت الذكريات الموغلة في الماضي هي التي يستحضرها هذا الذهن دائماً، وبخاصة، عندما يخلد إلى القيلولة بعد الغداء، تحت شجرة الكينا في حديقة منزله.

اعتاد في هذه الساعة أن يهجر، لا أسرته وحسب، بل الحاضر بأسره، ويسافر في ترحال متواصل في مدن وقرى بعيدة عرفت شوارعها ودروبها المتربة خطاه، يوم كان في مقتبل العمر، فتياً ومعافى ووسيماً، غير هذه الكومة من العظام الهشّة تحت الجلد الفاقد لونه بعامل الضعف والهزال.

هناك في بوينوس آيريس وفي توكومان وكوردوبا ومار دلْ بلاتا، على وقع موسيقى التانغو الراقصة، كان يمارس الحياة بكل نبضات قلبه الذي كان بصلابة الجلمود.

وينظر إلى قدميه المنتعلتين خفّين رقيقين يتلاءمان وهزال ساقيه العجفاوين، ويتحسّر على الأيام التي كان يرقص فيها التانغو الأرجنتيني الشهير في مراقص جادة كوريينتس بصحبة الفتاة خوانيتا التي أحبّها ولم يتزوّج منها، لأنه كان متزوّجاً هنا، في بلده، والقانون هناك لا يجيز للرجل المتزوّج أن يعقد قرانه على امرأة أخرى.

بيغاميّا... يلفظها الآن من فم فقد أسنانه الطبيعية، وما استطاعت وجبة الأسنان الاصطناعية مساعدته على النطق جيداً، بتلك اللغة العذبة، فصارت الأحرف تخرج من بين هذه الأسنان الزائفة مع صفير خفيض، يذكّره بضجيج الأفاعي في سهول البامبا، فيعود ويلفظها بالعربية: تعدّد الزوجات... إنها جريمة في تلك البلاد عقوبتها السجن. ولم يقل لخوانيتا إنه متزوج. صحيح أنه عاشرها معاشرة الأزواج وأسكنها معه في بيته في العاصمة، إلّا أنه لم يعقد قرانه عليها متذرّعاً بذرائع شتى، لعلَّ أبرزها عدم نضج وضعه المالي، وإيهامه لها بأن تجارته فاسدة. وقد قبلت الفتاة القيام بدور العشيقة لأنها كانت تحبّه، ولأن عودتها إلى منزل والديها باتت متعذّرة بعدما باتت ليلتها الأولى في بيته.

تباً لهذا الخزين من الذكريات الذي ينغّص عليه قيلولته. هو بالتأكيد يسعى إلى هذه الفتاة بعد كل هذه السنين، فيستدعيها من مخبوءات ذهنه. لكنه لا يريد تذكّر الجزء المحزن من تلك الذكريات، بل الأجزاء المفرحة. لكنَّ الذاكرة تضجر من البقاء في مراقص جادة كوريينتس وحقول مقاطعة إنتري ريّوس وشاطىء مار دلْ بلاتا. قد تكون الذكريات مثل أصحابها البشر، تمل وترهق، فتنحو إلى تغيير المشاهد بغية التجديد في المرئيات. إنه لا يدري. يدري فقط أنه يحب تذكّر خوانيتا وهي ترقص التانغو معه، فتبدو كالفراشة، خفيفة، ملوّنة تحترق شباباً وفتنةً. غير أن هذه المشاهد لا تبقى على حالها، إذ سرعان ما تتعدّى الرقص أو السباحة على الشاطىء أو التنزّه في الحقول، إلى مشاهد البيت حيث الوجوم والتساؤل الدائم: متى نتزوّج قانونياً يا حبّي؟

يا الله، ما أحلى نطقها لهذه الكلمة الرائعة: آمور ميّو!

وفي يوم مشؤوم، باع متجره وصفّى أعماله، وترك لها البيت بأثاثه وقفل عائداً إلى الوطن، على أن يعود بعد أقلّ من أربعة شهور.

ربّاه! لا تزال الدمعة التي ذرفها منذ أربعين سنة، تنحدر من عينه ذاتها. دمعة واحدة لا تتغيّر، وكأنها تتوالد من تلك الدمعة القديمة إيّاها. ويشعر بأن قلبه الواهن قد توقف عن الخفقان. لا، هذه أعراض داء الجفاف في الشرايين حيث فترت دقات القلب ونشطت اهتزازات اليدين.

يحاول أن يطرد ذكرى خوانيتا من ذهنه، فلا يستطيع. يبدو الذهن مستقلاً عنه فلا ينصاع لإرادته. ولا يجد سبيلاً أمامه سوى التحسّر. كيف عدتُ وتركتها هناك؟ كان بوسعي أن أطلّق امرأتي وأقترن بها. فلم أعاشر امرأتي أكثر من سنة قبل رحيلي إلى ديار الغربة، فيما عاشرت خوانيتا سنوات عديدة. لماذا عميت عيناي عن رؤية حقائق الحياة؟

الصفحات