رواية " السجن " للكاتب السوري نبيل سليمان، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب السجن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

السجن
الصفحة رقم: 2
ـ 1 ـ
الأغنية ملء كيانه. هزّته الرعشة عندما لمعت في خاطره صورة الأيام الموردة، ورفع عينيه إلى الجبل الذي يسد منافذ الأفق الشرقي:
جبل المرام!
متى سماه كذلك؟
العاشق الغر: أي هوى هذا الذي تملكه منذ أن ودع طفولته المرّة؟
على هونٍ صافح بصره الأوكار المنتشرة في خاصرة الجبل اليسرى وتساءل: هل عشق المنحوسون فيها القمة الحبيبة قبلي؟ ثم عرج على الخاصرة اليمنى مرغماً، كأن قوة مجهولة تدفعه إليها: إنه السجن.
وزفر مرتين:
كان الهمّ في الأولى،
وكان العزم في الثانية،
ثم باعد بين قدميه وتأبط كفيه، مصمماً أن يديم هذه الوقفة، طيلة دقائق الانتظار المتبقية.
الساعة توشك أن تشير إلى السابعة. أدرك ذلك بحدسه الذي اكتسب دقةً كبيرة في التوقيت، منذ أن بدأ قبل خمسة شهور هذه الرحلة.
كان منزوياً في وقفته وانتظاره خلف ركام عال من مواد البناء، والظلمة تغلفه. كان يحس دائماً أن مدين لهذه البقعة من السفح. من الصعب حقاً أن تقع على ركن أمين في مثل هذه المدينة. الأضواء الساطعة ليست بعيدة من هنا. أمتار قليلة خلف هذا الركام، ويرتمي في قلب الساحة. كيف يغدو الأمر بعد أن يقوم البناء في هذه القطعة، ويشعلها النور؟
اكتأب، إذ عبر هذا الخاطر صدره. لكنه أرخى من كتفيه المتعبين ضحكة ساخرة: هل سأقضي العمر أبحث عن الأركان الأمينة في هذا السفح؟ لن يتحول هذا الركام عمراناً وأنواراً قبل سنين، فهل ستمتد الرحلة حتى تلك الأيام؟ وأفاق على صوت غير بعيد، فأيقن أن عابداً قادم. لا شك أنه تأخر هذه المرة أكثر من كل ما فعل في الماضي، بيد أنه جاء على كل حال. والتفت ناحية الصوت. حاول بصره أن يثقب العتمة، لكنه ارتد مخيباً. وعند استوى رأسه ثانية، سمع دقاق قلبه، فارتعش، وانشدّ بغتة عكس الناحية التي يتطلع فيها. لم ير شيئاً،. تزعزت وقفته الواثقة، وتراجع خطوة، وأنصت، فلم يقع على غير الصمت. حتى الصوت الأول اختفى. أيكون الوهم قد رسم له؟ عابد لا يشعل مصباح سيارته عندما يلج هذه الدرب الوعرة. لقد قال مراراً إنه يود لو أن المحرك يخرس حين يكونان معاً. وحاول وهب أن يمتلك هدوءه ويسترد الثقة المفقودة.
كم لعبت بالأعصاب الأوهام والتوجسات والظلمة والمواعيد. في المرة الأولى كان أن يبرح قبل الموعد. كانت ريبته كبيرة. حتى الأحجار وأكياس الإسمنت وكومات الأخشاب التي تستره، ارتاب فيها يومذاك. عابد نفسه لم يسلم من الشكوك. وقد آلى وهب أن يدرس قبل اللقاء الثاني هذه القطعة شبراً شبراً. خلفه ـ استدار وتملى ـ حفرة كبيرة، وأسوار المنازل مرتفعة. إلى جانبيه الدرب مفتوحة وسالكة، ولكن يمينه ـ التفت بحدة ـ يفضي إلى قلب المدينة: إلى الساحة المفضوحة. وتسمر رأسه صوب اليمين. الدرب موصدة هذه المرة. كيف؟ لقد رأى ملء عينيه سيارة تقطعها. ليست هذه سيارة عابد. عابد لا يأتي من هنا. وتجمد: أيكون وهماً أيضاً؟
حاول أن يتحرك فعجز. لم يلعن قلقه وربيته. ورغم أن صوتاً قد توضح في الطرف المقابل، في اللحظة نفسها، فقد تصلب فترة طويلة. وعندما هم أن يلتفت، كانت سيارة عابد تتسلل موشكة أن توازيه، فأطلق نفساً، وجدَّف. ثم مد قدمه ليلاقي السيارة، لكن نوراً ساطعاً انصب فوقه بغتة، وغمر المكان بكامله، فرأى عابداً داخل السيارة محتضناً المقود، لا ينظر إليه، ورأى كومات التراب المنتشرة والحصى والأكياس وقضبان الحديد. وفي الطرف الآخر رأى سيارة تقطع عرض الدرب. لم يبحث عن مصدر النور. أيقن أنه قد وقع في الفخ. لم تسلم الجرة هذه المرة. بيد أن حضوراً فجائياً امتلكه. أحسّ أن شيئاً داخل جمجمته يتوقد. قاد قدميه إلى موازاة السيارة، همس دون أن يحرف عينيه:
ـ تدبّرْ أمرك واتركني. وقعنا.
وأوشك أن يتابع عندما استوقفه نداء حاد من داخل السيارة:
ـ لا تتحرك.
لم يكن صوت عابد.انلجم. ولم يفكر في أن يستدير. سمع باب السيارة يفتح، ثم يغلق، ثم سمع صوتاً يأمره برفع يديه، فاستجاب بعد لحظة، وهربت من رأسه كل المخططات، ورأى شاباً طويلاً نحيفاً، يأتيه من الخلف شاهراً مسدسه، هو وظله، بينما تقدم منه ثلاثة آخرون، شاهرين أسلحتهم أيضاً، ثم سمع صوت الكلبجة فوق معصميه.