كتاب " ما هو العلم - رحلة التفكير العلمي " ، تأليف د. نزار دندش ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ما هو العلم - رحلة التفكير العلمي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ما هو العلم - رحلة التفكير العلمي
هناك اتفاق على حتمية الانتقال الى العلوم "ما بعد الحديثة"، لكن الاختلافات والتمايزات كبيرة في تحديد خصائص العلوم الجديدة؛ وتدخل في رسم التوقّعات الى جانب آراء العلماء الباحثين في العلوم الطبيعية، آراء الفلاسفة والادباء وعلماء الاجتماع وغيرهم. هناك أولاً توقّعان هما أقرب الى شرطين يوضعان على العلوم الجديدة ألا وهما أنسنة العلم وضبط استعمال نتائجه، حيث يوضع الى جانب كل اكتشاف جديد اكتشاف مكمل يقضي على العوارض الجانبية التي تؤذي البيئة والإنسان.
العلوم الجديدة يجب أن تولي اهتماماً للعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية لذلك يُتوقع أن تظهر فروع مشتركة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
واذا ما نظرنا الى اللوحة الجديدة التي سيرسمها العلم الجديد للعالم فاننا سنرى فيها دوراً للإنسان مكملاً لدور الطبيعة ونتوقع أن ينظر للحيوانات ككائنات فاعلة وان يُحفظ دور للكائنات الحية بشكل عام سيّما وان هذه الكائنات تلعب دوراً في تغيير تركيبة الغلاف الجوي وتركيبة سطح الأرض وقاع البحر.
والإنسان الذي أصبح لاعباً مؤثراً في مجريات الطبيعة ضمن اطار بيئته وصار سبباً لظواهر جديدة ومتجددة تدخل في موضوعات الأبحاث العلمية، قد تحوّل هو الى هدف تتقاطع في جسده تأثيرات العوامل "الطبيعية" الناتجة عن النشاط البشري. هناك أمور مستجدة وتساؤلات مشروعة وملحة، آن للعلم أن يجد إجابات لها: فكيف يتفاعل جسم الإنسان مع الاشعاعات الكهرومغناطيسية الناتجة عن أجهزة البث الفضائي اللاسلكي المختلفة والتي تنتشر في كل الفضاء، وكيف يتفاعل مع الاشعاعات النووية الناتجة عن التجارب أو المفاعلات أو القنابل الذرية. وكيف يتفاعل جسم الإنسان مع المركبات الكيميائية المستحدثة والتي تدخل في طعامه وشرابه ودوائه، وهوائه فهذه المركّبات ليست من نتاج الطبيعة الذي تعودت عليه اجسام الكائنات الحية عبر آلاف السنين. هذه الأمور وأشباهها سوف تكون في صلب اهتمام العلم الجديد، وعلاقة الإنسان بالطبيعية سوف تكون في صلب اللوحة العلمية الجديدة.
في الماضي كان يُنظر الى الكون على انه مبني من لبنات أولية اطلق عليها اسم الذرات، أما اليوم فلا بدّ من أن تؤخذ بعين الاعتبار الموجات الكهرومغناطيسية المختلفة والمنتشرة في كل مكان ولا بد من البناء عليها والبحث عمّا قد أنجز بناؤه.
اللوحة العلمية للكون، التي تجددت مراراً على مر التاريخ هي في مرحلة التجدد مرة أخرى، وسرعة تجددها الى ازدياد مضطرد...... لكن هل ما زال الإنسان يتقبل هذا التجدد؟ وهل الإنسان قادر على تحضير نفسه ليكون مستعداً لاستيعاب التحولات الثقافية والمعرفية السريعة؟ إن تجربة الحضارة البشرية تعلمنا ان الإنسان في طبعه محافظ ولا يتخلى عن معارفه القديمة بسهولة، وبما ان ثقافة العلم لا تستطيع أن تتخلّف عنه فإن على العلوم الجديدة أن تأخذ على عاتقها مَهمَّة تعميم الثقافة العلمية لتحقيق نوع من التجانس الثقافي في العالم على أساس علمي، فالعلم وحده قادر على توحيد البشر. واذا كانت هذه المهمة قابلة للتحقيق في عصر النهضة وفي موازاة الثورات العلمية والفكرية التي حدثت في اوروبا فهل سيكون تحقيق المهمة ممكناً اليوم في ظل الاسترخاء الفكري الحاصل وفي ظل انهماك الاهتمام العالمي بالمسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية؟
قبل حوالى العقدين من الزمن بدأتُ بتحضير أطروحة دكتوراه في مجال فلسفة العلم (بعد أطروحة الفيزياء) بعنوان "دور العرب في تطوير مفهوم العلم". ومع أن ظروف الحرب في لبنان قد حالت دون اتمام المهمة يومها فقد وجدتُ في حينه أن البحث في تطوّر مفهوم العلم وارتقاء الفكر العلمي عبر التاريخ متعة لا تضاهيها متعة أخرى فرأيتُ ان أتوسعَ ما استطعت في البحث حتى أَقْدَمَ البدايات التاريخية الممكنة وآخر النهايات المسجلة ولخّصت كل ما وفّقني الله بتحقيقه في هذا الكتاب في محاولة لاستعراض سيرة الفكر العلمي من منطلقات علمية وباسلوب علمي مبسّط متوخياً التجرد الذي يفرضه الوفاء للحقائق العلمية، وتعمّدتُ استعمال اللغة البسيطة والتعابير التي تستدعي الابتسامة أحياناً لكي أحمي القارئ من جديّة الموضوع المفرطة.
لم أتطرّق الى تاريخ العلم في ما هو سيرة للاكتشافات العلمية والنجاحات التقنية وتوثيقاً للأحداث العلمية إلا بالمقدار الذي يخدم موضوع البحث في تاريخ الفكر العلمي وتطوّر مفهوم العلم على مدى التاريخ؛ وتعاطيتُ مع تاريخ العلم فقط في وجهه المعبّر عنه بحركة الأفكار والمفاهيم والنظريات وتطوّر أنماطها، ومع تاريخ تطور العلم عبر عمليات التراكم وعبر الثورات العلمية. ومرد هذا الأمر الى ضرورة حصر البحث في موضوع يتّسع له حجم هذا الكتاب وليس لأية أسباب فلسفية أو ايديولوجية مسبقة.
لم أتماد أكثر من اللزوم في توصيف دور العرب في عملية تطوير الفكر العلمي لضرورة العدل في توزيع مساحة الكتاب، لكنني أزعم أنني قد أضأت على جوانب لم تُعطَ حقّها من قبل.
حاولتُ في هذا الكتاب التركيز على تحديد موقع العلم في حضارة الإنسان وعلى أهميته ودوره وتأثيره على ادراك الإنسان ومعرفته وعلى مستواه الحضاري. وكان من الطبيعي التطرّق الى حقول نجاحه وحدود فشله والى مهماته المستقبلية والى مصيره بشكل عام.
إنّ ما دفعني الى هذا العمل كان في جانب منه فضول علميّ، كما ذكرت، وفي الجانب الآخر رغبة في وضع ما جاء فيه من معلومات بتصرف مُحبّي المعرفة وخاصة الطلّاب والتلامذة. وقد هالني أن نُدرّسُ طلّابَنا في الجامعات نظريّات عمرها مئات السنين ويبقى معظمهم يجهل روحيّة العلم ومهمّاته الحالية والمستقبلية.

