كتاب " الصلاة الأخيرة " ، تأليف حميد فرين ، ترجمته إلى العربية ميرنا صعب، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الصلاة الأخيرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الصلاة الأخيرة
أولاً
الموسى بيدٍ والرغوة بالأخرى، وهو يمعن النظرفي نفسه في المرآة. يقترب ثم يبتعد ثم ينحرف وهو يخاتل المرآة، وكأنه يخشى مجابهة الوجه المقابل، وجهه. لم يكن أبداً ليفهم معنى ذلك الاستعداد السخيف والمثير للسخرية، وهو يتحرك جيئة وذهاباً بكثير من الغرابة، قبل أن يجابه نيران الموسى. كان يشبه في شكل من الأشكال، ملاكماً فوق حلبة، وقد انصرف للتسخين والتحمية. أما هو فلم يكن له غير خصم واحد أحد: وجهه المنعكس في المرآة.
فهو بعد أن يضحي بطقسه ويتجـاوزه، ينظر إلى نفسه. فالوجه الذي تعكسه المرآة ذو تقاسيم وملامح متفاوتة وغير متناسقة: الأنف أقنى ومعقوف، العينان جاحظتان قليلاً، الجبهة عريضة، الشفاه عريضة ومكتنزة، الذقن مربع، الشعر كثيف وعصيّ على التسريح فوق الرأس، وهو ما يجعله يبدو وكأنه يخرج للتو من سريره. من هنا كانت قَصّة شعره القصيرة دائماً. يكفيه أن يتأخر في الذهاب إلى الحلاق حتى ينتصب شعره مبعثراً في كل الاتجاهات. ولو أن أحداً، حاول تفكيك ذلك الوجه، لما عثر على ملمح من ملامح أدونيس. غير أن الوجه بمجمله، لا تنقصه الفتنة وسحرها. هناك إغواء خفيٌّ، يطل من ذلك الوجه بملامحه المتعبة، وتقاطيعه المتسعة التي تدل على أرق صاحبها. إنه إغواء عميق لحيٍّ/ مفكر، ولنوع خاص يجمع الفنانين ومثلهم التائهين، والبعض القليل والقليل جداً من الصحافيين الذين جعلوا المهنة عبادة. من القلة القليلة كان حوّاس. لكي يحب أحدهم حواس يجب أن يعرفه ولكي يعرفه يجب أن يحبّه.
العادة نفسها حين يجابه حوّاس وجهه ويباشره بعينيه، ويكلمه وكأنه يكتشفه للمرة الأولى: «باستثناء بعض التجاعيد التي خطت الجبهة، وبداية الصلع الذي يقتحم الجمجمة، يبقى لك رأس مارشيلو ماستروياني!» ولو تكلمت مرآته لأجابت متسرعة:: «إنك الآن تشبه أياً كان، باستثناء مارشيلو. فأنت لست غير حوّاس الحواط!!» أَيُعاني حواس من انفصام في الشخصية لدرجة أنه يرى وجهاً آخر غير وجهه؟ أبداً. إنها ملهاة، يُلاعب فيها حواس أناهُ عبر المرآة التي تفصلها.
كان منذ طفولته، يحتفظ بمصفاة وردية اللون يضعها بين حين وآخر على عينيه، ليرى إلى الناس والأشياء كما يودُّ لها أن تكون. كانت المصفاة بلونها الوردي تسعفه على العيش. البعض يحسب نفسه جباراً وثرياً، رئيساً أو بطلاً، أما هو فيحسب أنه مارشيلو. بغير أن يكون مارشيلو، وبغير أن يحتل دور البطولة التي كانت لمارشيلو في الحياة العذبة ورهافة العيش. له أن يستأثر بنساء مارشيلو، بغير أن يعوضه بالمقابل. وبمَ يعوض ممثلاً، لا يسعى للاستئثار بشيء؟
أكان سعيداً بما قُدِّر له؟ كان مكتفياً بذاته، غير محتاج إلا لقلم، وورقة بيضاء، وامرأة، وقاموس يستند إليه.
فكره يحلق باتجاه الممثل. وهو يعبد ذلك الإيطالي الذي يحفظ أفلامه عن ظهر قلب. يحب كل ما هو عنه: كمثل امتشاقه قامة العاشق اللاتيني، وسخريته وفلسفته في النساء. «لا توجد من تستحق أن نُغَيِّر حياتنا من أجلها» عبارة أسرَّ بها لإيليا كازان. وهو أيضاً ما يتيقنه حوّاس ويؤمن به. غير أنه بخلاف ماستروياني الذي سجد على أقدام فاي دوناوي إذ هجرته، لم يسجد على ركبتيه أمام أية امرأة. كان يحب أن يغتذي بنماذج وأمثلة تدل على هشاشة معبوداته، فيصير بها أكثر اقتداراً وقوة، هو القائل ليس من إنسان خارق. كان يزعم أن ماستروياني هو الفاتن الذي لا يقهر، ولا يتأوه، يفتن الواحدة، ويهجر أخرى تميتها الآلام في سبيله، قبل أن تكتشف أنه مخلوق ضعيف، يئن ويتأوّه كأمثاله من البشر. كانت هشاشة الآخرين تضعف تلك التي يعانيها حوّاس وتبهتها.
قراءاته الكثيرة والمتنوعة أتاحت له أن يدرك هشاشة الجنس البشري، وكبار رجاله. فهو بإمكانه أن يكتب مقالاً رائعاً يكشف الأمراض والعقد الخَفِيَّة التي عاناها رجال طبعوا التاريخ وتركوا فيه بصماتهم.
إنها إعاقاتهم التي دفعت بهم للتربع فوق العروش والقمم، على ما يظن حوّاس. فقضيب نابوليون لم يكن يتجاوز قضيب صبي في السادسة من العمر، وتولوز لوتريك لم يكن أكثر من قزم، وهتلر كان يتيماً منبوذاً من طرف زملائه. ونيتشه مكبوتاً جنسياً ومحبطاً ومنهاراً. أما حوّاس، فأي المواقع تحتلها إعاقاته في مجلس الرجال الخارجين عن المألوف؟ هو نفسه لا يدري أين موقعه. فهو يقول بخجل زائف ومصطنع، إنه الكائن الأكثر سخفاً: بقامته المتوسطة، وذكائه غير الحاد، وجماله العادي، وغياب الأمراض المعيقة، وعناية أمه العطوفة، وطفولته الطبيعية، ودراسته غير العبقرية. ما من شيء يجعل منه أسداً. بل هو جزائري متوسط، كمثل الملايين الذين يشبههم، كما يقول. غير أنه في أعماقه، لم يكن يقر أن هذه حقيقته. فقناعته، أنه، لا شبيه له. ليس لأنه يتفوق على غيره، بل لأنه مختلف. له أحلامه، وإعجابه، وجنونه الذي يميزه وحده. هذا ما يتذكره من كلمات زوجته قبل أن تمسي مطلقته.
«إني لم ألتق أحداً يشبهك. فأنت تكتفي بنفسك وحسب. أنت رجل الأمس المختبىء تحت مظاهر الحداثة. ظني أنك ستنتهي إما إماماً وإما سكيراً معربداً... وربما الإثنين معاً...».
لشدة ألمه، لم يجب بشيء. ألم الطلاق، بعد خمس سنوات من زواجه. حوّاس لا يحب الإخفاقات العاطفية وخيباتها. بخاصة إذا كان الشريك هو من قرر القطيعة. فهو إذ ذاك يسقط صريعاً ومنهكاً. ويشعر في مكان ما بأنه غير مُقْنِع. إنه لا يحتمل رحيل الآخرين، ولا يفهمه. فخشية الهجر، كانت تدفعه إلى أن يبادر إلى الهجرة، ولو أدى ذلك إلى إدماء ضحاياه فهو حتى زواجه كان هاجِراً. أما حواء فجعلته مهجوراً. فهو إذ يتذكر مطلقته، يعود ليتذكر ليلة فِراقهما. كان ذلك منذ سنتين. غير أن حوّاس لم ينس شيئاً. فهو إذ يتذكر، يرى نفسه، ثم يراها، ثم يراهما...
كانت ليلة دافئة من ليالي الشتاء الجزائري المعجزة والاستثنائية، لمن يقدرها ويستمتع بها. لمن يحب الجزائر، ويجيد قطف غموضها الآسر، بعيداً عن حطامها وبقاياها. في تلك الليلة خرجا معاً، ليحتفلا بعيد ميلاد حواء في أحد المطاعم الآسيوية، غير البعيد عن شارع ديدوش ـ مراد. وكانت أمنية حواء الوحيدة: أن تكون السهرة حميمة، وأن يمضياها كفرخي يمام وكعاشقين فتيين. ارتدت حواء ثوبها الليلكي، الذي كان يعجبه، ويثير تقززها منذ زمن، لهوسها بالسراويل. ثم عقصت شعرها، لأنه يحب تلك التسريحة. واختارت المطعم لعلمها بأن زوجها يعشق الطبخ الآسيوي.

