قراءة كتاب حرافة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حرافة

حرافة

كتاب " حرافة " ، تأليف بوعلام صنصال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
إلى القارئ

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

لست أدري إن كنت آسفة على وحدتي ووحدانيتي القديمة، أو على لياليّ الطوال الخالية التي قضيتُها أو نهايات الأسبوع الفارغة من كل نشاط، أو استرخائي الشهواني وشرودي المتشابك بالذهول والدهشة، أو هوس وهوى عزوبتي الأزلية غير المنعّمة والمضبوطة رغم كل ذلك، أو هلعي ورعبي في الظلام الموحش والمثير إلى أبعد حد، أو تمردي المستميت على الأشباح التي تقاسمني أسرار الزمن الغابر وهدير الجدران المثقلة بالقصص المنسية. إنني أحسّ بالوحشة، لا ريب، ولكن ليس بالأسف. كلا، لا يوجد بداخلي أسف البتة، بل نوع من الذكرى المفعمة بالأحاسيس. لقد كنت أعشق ذلك التيه في الوحدانية، وذلك اللجوء العذب إلى غيابات نفسي، وفي حضن بيتي القديم الذي عمّر لأكثر من قرنين اثنين. ذلك البيت الذي شهد تعاقب قوافل البشر تلو البشر، ليأخذ مع مرّ الزمن التجاعيد ويألف عادات متحجرة وروائح تفوح بعطر خاص وأناس سبقونا إلى الوجود، من الانكشاريين، من مدخِّني النرجيلة الذين قضوا إما بحدّ سيوف الغدر والمكر، وإما بسبب مرض مكتوم ودفين. تُركيّ من الباب العالي وضابط في الحرس الملكي بنى هذه الدار لقضاء أوقات الراحة مع نهايات الأسبوع، ثم جاء بعده فيكونت من القرن الماضي؛ فرنسي الأصل، متصلب، فيه من صفات العسكر النصف ومن صفات علماء الطبيعة النصف الآخر، فانتهى به الحال إلى الانغراس في المدينة العتيقة ليعتنق الإسلام ويتزوج من بنات المسلمين، ثم جاء بعده يهودي يكون أحد أسلافه قد حل ببلاد البربر قبل أن تشهد أولى ثوراتها واضطراباتها، ثم توافد عليها الأقدام السود الذين ينحدرون من أسر بائسة من منطقة نافار ومن الجليل ليرحلوا إلى القطب الشمالي حيث يوجدون الآن، ثم جاء أخيراً أهلي النازلون من أعالي جبال القبائل غداة الاستقلال، ووصل بعدهم الأصدقاء والأصهار والأنسباء لتأويهم الدار أوقاتاً، وجاء من ضمن من جاء إليها الغرباء العابرون الذين قدموا في سنوات الدم والنار، لما صار الشرف كالعار، في الحضيض، وجلبوا معهم الأسرار ثم ارتحلوا دون أن نتمكن من سبر أغوارها. إننا لم نترك حيلة إلا جرّبناها لنوفّق في القيام بدور الموفّق وجامع الشمل! فلقد كانت الدار كبيرة وكنا صغاراً، وكذلك لم نتعود على الشدة وكذلك لم يشتدّ عودنا، وفلتتْ من بين أيدينا أشياء وأشياء.
كنت أعشقُ القيام بالدخول العابر في عتمة الصمت والسكوت، والولوج في صلب جميع تلك المسائل التي يساورنا التفكير فيها لما كان الوقت يمضي دوننا، وكنت أخترع منها ما أشاء إلى ما لا نهاية، وكيفما يحلو لي الأمر. كنت أسافر بعيداً ولا أعود إلا بعد أن يطول بي المقام. فالواقع ليس إلا محطة خلال الرحلة، وسلسلة متعاقبة من أعمال السخرة والحركات المتواترة والحكايات المملة، فأولى لنا وأحرى أن نختزلها ونختصرها. ورغم ذلك كنت أحب أن أقع في ورطة مشاكلي القديمة قدم هذه الدار، والظهور بمظهر في غاية الإصرار الجامد وأحياناً بمظهر الدقة الماكرة. إن في الحياة البسيطة تعقيداً شديداً أحياناً، إذ يوجد فيها خبايا ما يعتمل في السر وفي الخفاء. أما الجدران فكانت تتداعى، والأواني تتحطّم، والحديد يخبو من الكي والخراطيم والمواسير تسيل وتشخ هكذا أو أكثر، وكل شيء يئن من الصرير أو من الغرغرة، وغالباً ما تهوي عليّ الظلمة الحالكة وأنا في كامل النور. غالباً، بلى، وأكثر فأكثر، إذ أحياناً يبدو لي أن شقاً كاملاً قد تداعى وانهار. ممّ حصل ذلك؟ لست أدري، وأحياناً تحدث الانهيارات في ذهن المرء. لقد كانت تحيط بي الأشياء العتيقة البالية، وكانت تُسْلِمُ الروح بأسرع مما نقوى على رد الروح إليها بالتصليح. وما كان علينا إذاك إلا أن نتقبل الوضع طوعاً إن شئنا أم كرهاً ونتعود على الأمر، هذا كل ما في الأمر. وكنت أقول لنفسي إنّ كل ما يشدّ بالبرغي يفكّ به، فالأحسن أن أستعمل المطرقة. ولقد ألزمتُ نفسي بعض الوقت وعوّدتها على ذلك، ووجدت في ذلك بعض التقشف الذي جاء بعد الطفرة الصناعية، بحيث كان يجعلنا نكتفي بعدم الاكتراث وهز الكتفين استخفافاً وبالآهات المتصاعدة كالزفرات كمداً أو تعبيراً عن غضب شديد لا يطاق، ومن باب الالتزام بطقوس تبرئة الذمة. على كلّ حال، أكسبني كل ذلك قوة في الذراعين وألهاني عن سماع رطانة الثرثرة السياسية التي كانت ديدن القوم. لقد كان كل ذلك في عهد سقط المتاع، وحركات الجماهير الغفيرة، حيث كان الكلام يطول ويفيض رغم الداء والأعداء، فيتكرّر الأمر طوال أيام ويخلد الناس للراحة في آخر الأسبوع، وهكذا دواليك. لا يوجد أي جهاز لم أعرف أسراره وخباياه، وكذلك قد أفلحتُ في فك رموزه لكي أستبدله بجهاز جديد معقد يثير أعصابي بسبب التكنولوجيا العالية فيه منذ البداية، إذ لا يوجد جهاز واحد صُنع في بلادنا، فكله مستورد في حاويات مباشرة، خالص التأمين وكلفة الشحن، وتذهب تواً إلى العنوان المحدد حيث تظل رابضة في منأى عن الفضوليين. ولم يكن الصنيع الجدير بالفخر يتمثل حينئذ في تشغيلها، إذ يكفي الضغط على زر واحد للقيام بذلك، بل في فك رموز دليل الاستعمال. ومن المثير للإحباط أن يجد الإنسان كومة من المطبوعات تملأ كرتون التغليف لا يفقه لها أمر. ومن المستعصي جداً أن يجد المرء اللغة التي هو في حاجة إليها، لذا آخذ ما وصلت إليه يدي للاطلاع، هذه اللغة الصينية والكورية والهندية والروسية والتركية واليونانية. كنت أتمعن في الموضوع مرة ثم أخرى، ولا أجد مخرجاً. أيُعقل أن يتكلم البشر كل هذه اللغات ويستطيعون التفاهم فيما بينهم! أمرّ على الصيغة المقترحة باللغة الفرنسية مرور الكرام فهي من صنيع أناس تعلموا لغة موليير في كتب التعليم الجاهز كالأكل الجاهز تماماً. كل ذلك كان يزعجني، كنت أفكر في إعادة كتابتها وتنقيحها لأقرأها نقطة نقطة. كنتُ أمرّ على اللغة العربية ولا أتوقف عندها، فهي تذكرني بالأوراق التي لا حصر لها والتي دأبت إدارتنا العجيبة على إرهاقنا بها منذ أول يناير إلى غاية نهاية ديسمبر من السنة المدنية. أما الإنجليزية، فقد حاولت تفاديها بالرغم من معرفتي السطحية لها، فهي تجعلني أرتبك، وأشعر أني عديمة الثقافة وعصبية. إنها لغة الناس الذين يسافرون كثيراً أما أنا فلا شأن لي بالسفر. ولكن من ذا الذي تجرأ مثلي على الادعاء بتشغيل هذه الأجهزة دون قراءة مطبوع دليل الاستعمال؟ ولم أبق على هذه الحال إلا برهة، فأنا لا أملك إلا القليل من الأجهزة ، ثم ما دام كل شيء يأتي في أوانه فما عليّ إلا اكتشاف الأمر بنفسي: إن التكنولوجيا موضوع في غاية الجدية، وهواية الرجال المفضلة وديدنهم وليس للنساء سبيل إلى حشر أنفهن فيه. ولم أُطِل التفكير لأصل إلى الحل؛ عمو حسين، الجار الساكن في ردب القبّرات، صديق والدي المرحوم، المتقاعد من الحرب التي لم أعد أذكرها ومن الإدارة لا ريب، سيهرع المسكين حاملاً صندوق عدّته وعتاده حالما يصله أول طلب للنجدة، وسوف ألمح من ملامحه المتظاهرة بالعلم والاطلاع الواسع أنني مسكينة وقعت في ورطة فعلاً. أما هذا الرجل الطيب فكان لا يعرف كيف يقاوم التمثيلية التي أقوم بها على مرآه. وما إن يبدأ عمله حتى يصبح شعلة نار ولا يهدأ له بال إلا إذا عرف سبيلاً إلى إصلاح الخلل. أما أنا فأقف مبهورة لأراه يكد ويجد والعرق يتصبب على جبينه وفي يده نافثة النار الشفاطة وهو يحاول التغلب ببطولة على الثقب سبب العطب. وإذا ما استثنينا الجنينة التي صارت كالأدغال القفر فإنّ الدار لا تشكو إلا من تضعضع مفاصلها، وشيخ طاعن في السن مثله لا حول له ولا قوة في إصلاح ما أفسده الدهر. وبين مصاريع الأبواب والنوافذ وحلقاتها صارت الريح تجد لها طريقاً لتعوي وتدق الأعصاب ولكنها، والحمد لله، لا تصل إليّ. ومن باب تقديم جزيل الشكر لعمو حسين فلا أحسن من الإطراء في امتداح قدراته والإطناب فيه أمام فنجان قهوة معتقة. ولكن العجوز المسكين كان يهوى احتساء العرق الرديء، وأنا أعلم ذلك علم اليقين لأني لطالما استنشقتُ رائحة الخمرة النارية وهي تخرج من أحشائه، ولكن كيف لامرأة مثلي أن تعرض عليه الخمرة دون أن تصدمه وتفقد احترامه إياها. ثم إن لي وساوسي وهمومي، وأنا أراه يعاني الأمرّين من داء النقرس الذي سكن مفاصله واستوطن فيها لكي لا يرحل أبداً. يكفيه أن يبلي البلاء الحسن بما بقي له في سبيل مساعدتي على حل مشكلتي، وما عليّ إلا الاكتفاء بعصر القهوة حتى تصير كالقطران لكي يكون لها مفعول الكحول الخام. وهكذا جلستُ أصغي إليه بسذاجة، فاغرة فاهي إلى درجة الغباء، ويدي على خدي وهو يروي بطولاته ضد مكتب من مكاتب الإدارة، وأعيش معه عراكه المستميت مع عريف في المخابرات يكنّى أبو هتلر. وفي الختام، ولما لم يبق إلا لبّ الموضوع، يحذرني من العرب الذين تحوّلهم السلطة إلى قساة وطغاة. إن للجيل القديم من الرجال طريقة في تكرار الكلام نفسه ولا سبيل إلى وقف استرسالهم. ومع ذلك كان ظريفاً وطيباً وخفيفاً على القلب. كان قبائلياً لم يتغير طبعه ولم يتلطف أبداً، ومازال يقيم للرجولة وزناً وشاربه يدغدغ أذنيه، وبطنه المكوّر يشده إلى الأمام ويجذبه إلى الأسفل. كانت عيناه المغمّصتان بالرميص وخصلات شعره تظهره بمظهر فيل البحر العجوز القادر على البقاء طوال نصف سنة كاملة. كان يتكلم كما يحلو له وكما يعرف، يتحدث بالأمازيغية عن جبال جرجرة الشاهقة والبعيدة بحيث كانت كلماته تتجاوز الواقع الفعلي البئيس. وكان لهؤلاء الشيوخ الماكرين المهرة طريقة مطلقة وجذرية في بيان الوقائع إلى أبعد الحدود، ولا سبيل إلى مناقشتهم أو مجادلتهم. وفي الواقع، حتى أنا لم أكن أفكر في خلاف ما يفكر فيه ولكني لستُ في السن التي تسمح لي بكشف المستور دون الوقوع في المحظور؛ فكنت أهز رأسي لتوكيد الموافقة في الرأي دون فعل زائد. لقد كنتُ أجد في كل ذلك فائدة ومتعة، ولكن الأمر كان مكلفاً بشكل فظيع، فهذا الرجل الطيب يأخذ من وقتي أمسيات بكاملها، وذلك جزاء استخدام اليد العاملة المتقاعدة. وفي يوم من الأيام انتقل الرجل الطيب إلى رحمة الله وبكيتُه بحرقة.

الصفحات