كتاب " حرافة " ، تأليف بوعلام صنصال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
إلى القارئ
قراءة كتاب حرافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

حرافة
حتى شهريار كان له أيضاً نصيب في أحلام اليقظة التي تنتابني وحالات الذعر التي تجتاحني، لست أدري إن كان موجوداً حقاً. بل هو خيال يرتسم في خلال النور المعاكس من وراء مغالق الشبابيك في الدار المقابلة، تلك الدار القديمة المهملة، المتشققة المتصدعة حتى النخاع، التي ظلت شاغرة منذ أن غادرها صاحبها الفرنسي، الذي فهمت أنه كان فرنسياً أصيلاً، مع نهاية الستينيات بطريقة تكاد تكون غريبة. لقد كان من الصعب اقتفاء الأثر، في ذلك الوقت الذي لم أكن قد بلغتُ السن التي تجعلني ألاحظ الجيران، ولم تسجل في زاوية من زوايا ذاكرتي المراهقة إلا صورة خيال رجل يروح ويجيء كما يفعل أي خيال إنسان آخر. إن الصورة التي تقف أمامي كعلامة استفهام اليوم هي صورة طفولتي التي تحاول أن تطفو على السطح. فكيف السبيل إلى ذلك؟ وقد مر زمن على ذلك العهد وخلّف وراءه جراحاً وآلاماً في القلب. أما الحي فلقد تبدلت عليه وفيه أناس وأناس منذ ذلك الوقت إلى الدرجة التي يصاب فيها المرء بالغثيان. وكانت التحولات تجري تحت وقع السرعة الفائقة، فمن كان سريعاً تبدل عليه الحال ومن كان بطيئاً أخذ الضرب على قفاه كما يقال، فلا شفقة ولا رحمة. وأما الزحف الريفي الذي كان سمة نجاح تلك المرحلة فلقد حوّل مدينة الجزائر إلى موطن بؤس لا أول له ولا آخر، حيث كان الناس يأتون إليها ويخرجون منها ثم يختفون في بيت من البيوت القصديرية هنا أو هناك. وكانت امتداداتها المجسيّة لا تعدّ ولا تحصى، تلتفّ وتنحلّ من أفق إلى أفق آخر. وحيثما وصل الإنسان نالت منه القبضة ذاتها، إذ في مدينة مريضة يكفي أن تنطلق شائعة واحدة ليبدأ الكلام في الانتشار، ولم تكن تصلنا واحدة منها إلا وتلتها عشر أخريات. قيل إنها دار مسكونة بالأرواح. وكان يشيب لهولها الولدان وتهبّ لها العجائز المقعدات فراراً في كل اتجاه، فحلّ بالحي الإفلاس، ورحل التجار إلى فضاء أرحم وتبعهم الزّبُنُ. مسكونة، مسكونة بالأرواح، هذا هراء. إنها وسيلة والسلام، أما الناس فيشكّون في أنها مكيدة مدبرة على حساب الفرنسي، وقصة مختلقة لانتزاع ملكية الدار منه، وهم لا يرغبون في أن يصبحوا شهوداً على أي شيء ولو على جريمة، ولو كانت محبوكة ومموهة. وإذا كان ثمة أي ترتيب، فلا شك بالتهديد وكل ما يرتبط بالوعيد. ومن يتكلم عن التهديد يفكر في سره في الحكومة. أما أنا شخصياً فصدقتُ الرواية وأدمنتُ الكوابيس بما فيه الكفاية، ثم تسلل الشك واندس. إن الأشباح أمور مسلية ولا دور لها إلا القيام بإشاعة الخوف لا غير. أما هذا الشبح فكان له أسلوب آخر، كان يرقب ويرقب باستمرار بدل أن يرفرف ويطير مع الريح ويصدر النعيب أو النعيق. كان لذلك الخيال إذن دعامة صلبة، ولباس من لحم ودم، ورأس مثقل بالأفكار البالية بل الخطيرة. لقد فتح كل ذلك باب الاحتمالات والفرضيات. فهل هو قاتل يترصد ضحيته، أم سفاح على رأسه عمامة، أم هارب ضاقت به السبل فصار لا يلوي على شيء، أم إرهابي أقسم أغلظ الإيمان أن يشعل الحي ناراً في آخر المطاف؟ في حالات الخوف التي كانت تنتابني كنت أتخيله بهذا الشكل، أما في حالات السعادة فكنت أسرح بخيالي وأراه عاشقاً ولهاناً يعذبه الأسى، وأراه في شكل "كازيمودو" وهو يحتضر على فراش غطّاه الغبار، وأراه ناسكاً سلبه التفكير في دواخل ذاته، وأراه في هيئة الرجل الفيل، رجلاً طيباً، أو شيخاً فظاً أهمله أهله، أو عالماً مشعث الشعر منكباً على أبحاث خارقة للعادة. هل سيغادر نافذته؟ أبداً، ما دمت في البيت. كيف يشغل وقته أثناء غيابي؟ كنت أطرح السؤال على نفسي، وكثيراً ما كنت أختلس النظر في اتجاهه وأشيح عنه بخطوة خفيفة.
لقد أطلقتُ عليه اسم شهريار. كان ذلك يعبّر عن بعض ذكريات الطفولة وسنّ مطالعة الكتب القيّمة، وكذلك هي بعض من معطيات المجتمع الفظيعة والحمقاء في الأزمنة الحديثة حيث صار الملتحون يشغلون البلد وضواحيها، هنا وهناك، فيما وراء البحار والديانات ولم يتركوا لحياة البرية إلا قشّة للتنفس.
أما صاحب اللحية الخاص الذي يعنيني فلم يكن شريراً أبداً، فلقد اقتنعت بذلك في النهاية، ولكنه غريب الأطوار لا غير. وإذا كانت لشهريار لحية فلأنه لا يحلقها بكل بساطة. ولا أستطيع أن أتصور أن شبحاً أو شخصاً من شخوص الروايات العجيبة يمكن أن يستعمل تلك الأقنعة من الشعر كمجرد متعصب يشتعل قلبه غلّاً، إذ لا بد أنه يعشق نفسه بهذه الصورة، ومن يعشق يزيده العشق صبابة. وزيادة على ذلك، كان شهريار يذبح نساءه، وذلك مدعاة للتفكير، وعلى كل حال، لا يوجد دليل على أن شهريار كانت له لحية، أنا التي تصورته على هذه الصورة وأطلقت عليه هذا الاسم، لأن في اللحية ما يدل في أيامنا على الشر الذي يترصد، وينخر ويقتل. وعلى العموم، صار شهريار جزءاً لا يتجزأ من حياتي سواء كان بلحية أم بدونها. صرت أقاسمه وحدتي ولا شك في أنه يقاسمني وحدته. ولهذا لا سبيل لنا في الخلاص، فلقد وقعنا فريستين في ذات الشراك؛ كنا نستنشق الهواء الفاسد نفسه، ولم يكن يفصلنا عن بعضنا بعضاً إلا زقاق ضيق ومغالق شباكين فقط؛ مغلاق شباكه ومغلاق شباكي، المتآكلين بفعل السنين. ومع ذلك، لا يمكن أن أذهب إليه وأطرق بابه وأطلب منه أن يرحل، وماذا لو أنه كان شبحاً فعلاً.
لقد كانت لنا في الماضي أيام سعيدة، وكانت العائلة كاملة مكتملة. أبي وأمي وأخي الأكبر ياسين وأخي الأصغر سفيان الذي كان ينمو بسرعة، وكانت لنا كلاب صغيرة تملأ الفناء وقطط كثيرة، كما لا أنسى ما كان محبباً في نفوسنا جميعاً وهما زوج من طائرين لا ينفصلان عن بعضهما إلا عند الموت، وكان عمرهما قصيراً، فلقد كانا يزينان قفصاً مصنوعاً بطريقة فنية ومعلقاً في قلب الصالون كمصابيح الثريا التي تزين القصور؛ كذلك كانت النباتات منتشرة في كل مكان، مخضرة وندية، تتدلى من حبال المكدم المفتولة باليد. وفي الحديقة، كانت تعيش سلحفاة خفية وهادئة ترعى كل ما تجده أمامها، وأحياناً كنا ندوس عليها بالأقدام دون أن نقصد ذلك، هي التي كانت لا تعيرنا شأناً لأن أمثال تلك الحيوانات الهادئة كانت محصنة للغاية ولا حاجة لها بالاستغاثة. وكنت أنا من ضمن كل تلك المخلوقات، لامية، البنت الجميلة والمرحة التي ولدت بين شقيقيها، حيث كانت صديقات والدتي يأتين ويذهبن كما يحلو لهن، ويقعدن يتجاذبن أطراف الحديث لساعات وساعات، وكنت لا أطيق احتجاجهن، وبفضلهن كانت لا تخفى عنّا خافية إذ كل الأسرار كانت مفشاة للجميع. لقد كنا نتلذذ عند الأمسيات بفضائح الجارات، كما كنا نكره القيلولة ولذا كنا نترقب حضورهن ونسترق السمع. ولم نكن نشعر بأي حرج في ذلك، إذ كنا نفهم نحن البنات بأن علينا أن نتعلم منهن شؤون الحياة التي يخبئها لنا المستقبل. ولهذا كان بيتنا مفتوحاً للرائح والغادي، وكان الجميع يلتقون فيه، وفي كل ثناياه يوجد ولد أو بنت يسأل عن زيد أو عمر. لم يكن ثمة ما يثير الهلع ولكن الحركة كانت تحمل العدوى معها. كانت الأبواب تصفق بقوة والأصوات المدوية تملأ الجدران وتتحول إلى ما يشبه الهستريا الجماعية. أما الموسيقى فكانت تملأ الأرجاء حيث كانت أغاني فرقة "ييي ييي" هي أغاني الموضة. وكان "جوني" و"إيدي" و"القطط المتوحشة" و"الألجيرز" فنانينا المحبوبين. لقد كنا شباباً وكان أفقنا ضيقاً، وبالمختصر المفيد، كنا نحدث ضجيجاً يفوق ضجيج ثكنة وقت تسريح عسكرها من الخدمة... فأبي قد شارك في الثورة في وقت من الأوقات، وهو يحمل صفة المجاهد التي يُحسد عليها لأنّ ذلك كان يخوّل له حق استفادة معاش، مع أنه كان يتقاضى تلك المنحة من وقت إلى آخر بشق الأنفس وبعد وساطات شتى وكأنها هبة نزلت عليه من السماء. أما الوطنية فكانت شيئاً عظيماً، وقد يتعافى المرء من داء الكوليرا ولا يتعافى منها. كان أبي يتمتع بالذوق السليم في الاحتفاظ بأمراضه لنفسه، ولم يفرض علينا ميوله أبداً. وكان يقول متذمراً وهو يسمع التلفزيون يمجد المعجزات بصوت عال، كل مساء، أمام جميع الأموات ومعطوبي التاريخ: "أليس من الطبيعي أن يحرر البلد بأبنائه؟" ولما أصبح دخله لا يكفي حتى لإطعام طيور الكناري صار موظفاً في مشغل تابع للدولة لم أعد أذكر ماذا كان ينتج، وهو الذي يتْعِب آذاننا بالحديث عما يراه غير طبيعي في وحدته وهذا ما زرع الشك في نفوسنا بأن تلك الوحدة كانت تصنع اللاشيء أو مجرد النفايات والمذكرات الموجهة إلى سلة مهملات رئيس الدولة الذي كان يعتبر رب العمل في البلاد. فكانت بعض العبارات التي ينطقها بالفرنسية متذمراً لا أفقهها وأتخيلها شجراً عجيباً يتوسط المصنع بحيث كان ذلك يعطيها بعداً لامتناهياً لم أجرؤ أبداً على التمعّن فيه. وكان كل شيء في البيت على أحسن ما يرام حيث أنّ الغدوّ والمجيء والصياح والسيول في سلم البيت والأسرار والشكوى والتذمر والكدر يملأ أيامنا نشاطاً وحبوراً وليالينا هدوءاً وسكينة، كما الاستراحة بعد الحرب، ولم نكن نحلم بأكثر من ذلك، أما القطط الصغيرة فكانت تموء في سعادة غامرة، وكانت لها طريقتها الخاصة في التجمع في كومة تثير فينا الدهشة والإعجاب ونتخيلها سعيدة غاية السعادة. كنا نراها في غيبوبة بيد أنها كانت تبهرنا إلى حد تنويمنا مغناطيسياً فإذا شخيرنا يمتزج بخريرها ويتناغمان وفي ثوان معدودات كان البيت كله يدخل في حالة نوم عميق. ولم يكن ينقصني على اكتمال سعادتي إلا وجود أخت صغيرة وأشكر الله لذلك شكراً عظيماً. غير أن لويزة حبيبة القلب وزميلة المدرسة كان رأيها مخالفاً لذلك فتقول: "لك أن تشكري الله صباح مساء، فوجود الأخوات ألعن من وجود الدمل في الوجه". كانت لويزة تحمل في وجهها نمشاً كثيراً وكان الأسى يعصر قلبها دوماً لأنه لم يكن لديها أخ أصغر تلاحقه بالرقابة والعناية. كانت المسكينة تبدو كالبلهاء لشكلها المضطرب وأسنانها كمشط حاجز الدرك، ولكنها في الواقع كانت عكس ذلك تماماً، كانت طيبة جداً وحيوية إلى أبعد الحدود، وكانت ذرات النمش فيها جميلة جداً. ولذلك كنا نطلق عليها اسم "الجزرة" ولم نكن نكتفي بذلك بل كنا نصرخ وراءها "تعالي، حتى أقضمك"، وكانت فعلتنا هذه تفعل مفعولها فنراها تكفهر ثم تمتعض ثم تنخرط في البكاء. وعندها كنا نقوم بتقبيلها بإفراط حتى نجفف دمعها ولا يأتي أحد من أهلها للانتقام لها، فأمها وحدها كانت تماثل الجيش المكسيكي. وأنا نفسي كان لي من يحرسني من إخوتي، فكانت تقول وهي تتباكى، "أحلم بأن يكون لي أخ صغير" وأرد عليها متأوهة : "وأنا أحلم بأخت صغيرة". وكان كلانا يأخذ يد الأخرى في الذهاب والإياب، وأعتقد أننا أقسمنا على رأسينا بألا تفارق إحدانا الأخرى إلى الأبد"، حيث كنا نؤلف زوجاً من الحبيبات لم يكن ليحدث حتى لو كنا توأمين من جنس أسيل فريدين من نوعهما في العالم كله. كانت عائلتها كلها متألفة من الإناث، إذا استثنينا الأب، أحد أبطال الثورة، ومن المعطوبين بالمعنى الصحيح والمجازي، الذي لما اختلط عليه الحابل بالنابل قرر ألا يتدخل في أي أمر. وما عدا عادة فرك شاربيه فلم تُعرف له عادة مفضلة أو مستهجنة. كانت تلك طريقته في الحلم بدوّاره المحبوب، وككل فلاح كانت له أفكاره المتسلطة: الأرض والحرث والبذر وآفة البرد وسرّاق الأنعام والثعالب والمكلف بالجباية. وكان يجد ملاذه ومأواه الحقيقي في المقهى العربي بالكاف حيث كان يتجمع كل المستأصلين من دوارهم والمغروسين في الحي. كان متشبّعاً بالإيمان على الطريقة القديمة، قبل حدوث الزلزال، لما كان المسلمون ينذرون حياتهم للعمل في الحقل، فصارت عائلة من هذه الشاكلة، متمدنة وفي طريق العلمنة، خسارة لا تعوض، وهي زيادة على ذلك عائلة على عتبات جهنم.