كتاب " حرافة " ، تأليف بوعلام صنصال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
إلى القارئ
قراءة كتاب حرافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

حرافة
يسود الاعتقاد عادة بأن البنات الصغيرات لا يسترسلن في الكلام باستمرار إلا للحديث عن أصدقائهن، غير أنهن لا يفكرن في الواقع إلا في الأخ الذي يرغبن في أن يكون لهن أو الذي يتلهفن شوقاً إلى مسخه إلى ضفدع كبير. وتلك كانت حالتنا، حيث كان لنا من نعشق وكنا نتكلم عنهم فقط في موضوع غبائهم وتفاهتهم، أما البنات فكنّ يفكرن أيضاً في الأخت التي ليست لهن فيتأسفن لذلك بحرقة شديدة أو يفكرن في الأخت التي يرغبن في رؤيتها تحترق في نار الجحيم ولكن لا يتطرقن لذلك إلا عرضاً. وكانت تلك حالتنا، كنا نتفادى الخوض في الموضوع، وكانت لويزة لا تتصور فكرة العفو عن النساء الشرسات أما أنا فكنت لا أطيق فكرة التفكير في رمي الأخت الشقيقة في نار ملتهبة.
ولما بلغتْ لويزة سن السادسة عشرة زُفّت إلى متشرد من أقاصي البادية، فتوالت عليها الكوارث تلو الكوارث وأنجبت منه البنت تلو الأخرى ولم ترزق ولو بذكر واحد. وتلك كانت قوانين الوراثة معها، إما أبيض وإما أسود. مسكينة، لويزة، لم تنل في حياتها إلا عكس ما كانت تحلم به، فهي الأخت الصغرى في عائلتها ولم يكن لها أخ يعيرها اهتماماً أو يصغي لها سمعاً. أما ليلة زفافها فكانت كجنازة المريض بالجذام، وكان زوجها في ثياب متسكع المدن المسالم والسطحي يخفي شخصاً خطيراً جداً، وهو لم يكن يرغب ليلتها في فرح أو بهجة، فأمطرنا واللعاب يسيل من شدقيه بآيات من القرآن متوعداً إيانا بعقاب شديد اقتبسه من دليل الإرهابي الكامل. ولما كان الظرف لا يسمح إلا بالجبن راح الرجال يتظاهرون بالادعاء ويظهرون النفاق وهم يرددون سوراً من القرآن مثل الأبطال الانتحاريين، وأُصِْْبتُ منذ ذلك العهد بالصدمة ومازلت أتساءل باستمرار: هل يصنع الإسلام مؤمنين أم أناساً خرّع أم إرهابيين؟ والجواب في حد ذاته ليس بسيطاً، فقد يكون الأصناف الثلاثة مجرد ممثلين لا غير. ومن جهة أخرى، تبين أن الإسلام في الوقت الحاضر صار مسرحية وركيزة عظيمة يستعملها ناهبو القبور. وابتلعت البنات جنونهن وخلعن ثوب العرس البهيج وقعدن طوال الليلة تنظر الواحدة منهن إلى الأخرى بخوف وفزع وهن منكمشات وراء العجائز. لقد كان من الممكن أن يكون البكاء متنفساً ولكن هؤلاء الشرسين كانوا بصدد منع التنفس عنا أصلاً. وبعد ذلك، ولما كانت المدينة تلتف في كفن أسود كانت ترد إلى مسامعنا إشاعات مهولة وسكوت يندى له الجبين. ومنذ تلك الليلة لم أر لويزة، البنت الطيبة الهادئة، تُرى، في أي مصلحة حفظ الجثث هي الآن؟ لأن ما كنتُ أسمعه عنها، من قيل وقال، كانت له أصداء العالم الآخر.
وهكذا فرّ الزمان مني ووجدتني وحيدة. ظللتُ أجمع الأحزان وأنا سائرة في دربي كيفما كان الحال؛ الجامعة، وبؤس الخدمات الجامعية، وخسّة زملاء الدراسة، والغش والخديعة، والورطة تلو الأخرى، والتخبط في الوحل، ورحلة العذاب للعثور على عمل، ولو مجرد منصب صغير، والمرور عبر غربلة التوصيات المهمة، التي يقود بعضها رأساً إلى طرق مسدودة. إن كل تلك المشاوير تتطلب وقتاً، بل سنيناً، وتترك آثاراً في النفس وفي الجسم. وفي نهاية المطاف، لاح الفرج، هدية من السماء، فلقد مررت بمستشفى "بارني" في الوقت الذي كان طبيب الأطفال المعين يرمي مئزره على قدمي المدير، ابن عم الوزير وحفيد الباشا، وكان يهلل مبتهجاً وهو يمسك بالتأشيرة التي ترخص له بالذهاب إلى المنفى بكندا؛ فلقد كان حظه في القرعة التي جاءت إليه تزفّ له الفوز من على بُعد مسافة سبعة آلاف كيلومتر، وكان حظي من حظه، ففي اليوم نفسه لبستُ المئزر. كان المدير يعتقد أن عليه أن يبرهن على فحولته ولم يفكر في ذلك مرتين، ولم يمهل شهود الطلاق على الانطلاق في الهمز واللمز. وصاح في وجه الطبيب قائلاً: "اذهب إلى الجحيم، يا مأبون، سيخلفك أول من يقع في يدي!". وكنتُ حاضرة ساعتها وسمعتُ كل شيء. ووقّعتُ عقد العمل، على السراء والضراء. أما المرتب فلم يكن أكثر من معقول، كنت أستطيع أن أؤمّن الأكل، وتعلمت بالمناسبة فن التصرف في قشامة الطعام. وأدركتُ منذ ذلك اليوم كل شيء عن الاقتصاد العربي الإسلامي: للرجال كثرة الكلام وللنساء العمل سواء في مقرّ العمل أو في البيت، ولا وقت للراحة. أمّا زميلاتي فكنّ من المتزوجات، أمهات وكنّات، يعشن يوماً مقداره ثماني وأربعون ساعة وفوقه اثنتا عشرة ساعة كمؤخر يحتسب ضعفاً مع وصول الأحفاد. أمّا أنا فلمْ أكن أكترث للأمر، فالوقت كله ملكي. إن شمس الله تشرق من المشرق وليس من المغرب، ثم كيف السبيل إلى عكس مدارها، فتلك مسألة في غاية الخطورة، ولا يخطر ببالي طرحها أبداً.
توالت الوفيات وتتابعت معها مواكب التجمعات والمآتم ومجيء السماسرة وإيابهم ومعهم الأقارب والمعارف الذين جاؤوا يسعون إلى الانتفاع بالمواربة والمراوغة، والعروض العامة المقدمة لشراء البيت، وطلبات الزواج من خُطّاب في يدهم ديكامتر مضاعف لقياس مساحة الدار، والإمام الحاضر دوماً للتبجح. ولما اكتملت الأيام الأربعون شطبتُ على الموضوع بخط وأقفلت الأبواب والنوافذ، وهوى عليّ الفراغ كشاهد موضوع على قبر الميت، ولكن الفراغ كان خاصاً بي وكان في وسعي أن أشغله كما يحلو لي. وفي ذلك اليوم المبارك خولت لنفسي حقاً واحداً على الأقل وهو حقي في الموت على طريقتي، وقلت في نفسي إن محكوماً عليه ينعم بحرية في ذاته لأصدق من سجّان أسير مفاتيحه، وإن في النهاية لا بدّ من وجود جدار عازل بين الحرية والأسر. وهكذا دخلتُ مباشرة وبكل سهولة في ألعن زمرة للرعاع والأوباش في أرض الإسلام، ألا وهي زمرة النساء المتحررات والمستقلات. وفي مثل هذه الحالة، من المستحسن أن تعجّز المرأة وتكبر بسرعة، وبذلك تغضّن وجهي بتجاعيد بسيطة، إذ في ظل الراية الخضراء لا تمثل الشيخوخة غرقاً وموتاً للمرأة بل نجاة وخلاصاً.
عشتُ حِداد حياة بكاملها في غضون أشهر معدودات، وانقضّ الموت على عائلتنا واستبسل في القضاء علينا واحداً واحداً، أما أنا فتناساني، لما توسلتُ له جاثية، فبقيتُ آخر حبة في العنقود، وإني أتساءل عمّن يلبس ثوب الحداد عليّ. بعد الأب الذي مات بالقلب جاء دور الأم التي ماتت بالحسرة بعده بثلاثة أشهر، ثم تبعهما أخي ياسين الذي قضى نحبه في حادث سيارة كانت عشق حياته؛ سيارة رينو 5 زرقاء قضاب براديو وعُدّة منع السرقة، كانت فرصة من ذهب لما استوردها صاحبها المدعو علي الخردة مزوّر الحي بامتياز، من مرسيليا. دفعنا ثمنها من مدخرات البيت، وكنا نذكّره بذلك كل صباح أحد لما كان يلمعها كقالب صابون ثم يتسلل كاللص؛ كان يشبه أخي مغوي نساء على طريقة الثلاثينيات وكان جاهزاً للوقوع في أول شرك للحب ينصب له. لكننا كنا نتظاهر بعدم العلم بأي شيء بينما هو يجاحف الجدار كما يقال، وبتنا نتفهم أنه لا يفتش عن غانية إلا لغرض الزواج. لقد كان آن أوان زواجه، عندما دخل على الثلاثين وبدأ ظهره يحدودب، وكان يسعل بسبب وبدون سبب، فهو يعيش الوحدة ويشعر بذلك. كان موظفاً في الإدارة وتطبّع بحياة رجل الإدارة، وجلبنا في سبيل تزويجه أجمل بنات الحيّ وأرسلنا المراسيل في كل حدب وصوب وراقبنا كل بنت كحارسات الخدر. كنّا نفعل ذلك لأننا كنا نفتش عن الأبكار وليس عن العملة المزورة، فاتخذت الخاطبات بيتنا مزاراً، وانشغلت أمي المسكينة بالتردد على المقابر وبارتياد المآتم التي كانت الأماكن المفضلة لإبرام صفقات الزواج، وبزيارة أضرحة الأولياء الصالحين حيث تعقد وتحل الشؤون التي لا تخطر على بال بينما توليتُ أنا شخصياً ما بقي من المهمة، في الثانويات ومدارس الخياطة والأعراس والحمامات ومحطات الحافلات، واستقدمتُ من البنات إلى البيت حزماً ورزماً، الجميلات والذكيات، المتعلقات بالتقاليد والمتهورات مع وقف التنفيذ، الشقراوات والسمراوات والانتقائيات والصبايا الفتيات، وكن كلهن جاهزات متأهبات، غير أن الغبي كان يتشدد بلا سبب ويشيح بوجهه عن صاحبات العرض والاستعراض، كان يريد أن يصطاد حوريته بنفسه في الشارع كسيّد العارفين، وكان التعيس يظن بأنه أهل لإبطال مكائد الخاطبات؛ وذات يوم خرج ليفسّح سيارته العزيزة في اتجاه نادي الصنوبر، على طريق الوزراء، فهوت عليه شاحنة ثملة سكرانة، أخبرونا بذلك على سبيل التلميح وليس التصريح. وكنا قبل الحادث نداعبه فنقول له : "متى تتزوج صندوقك؟" ولكن لمّا كنا نتضايق من شدة إفراطه في تلميعها صباح مساء ثم حراستها بالمنظار فيما بقي له من وقت، كان لا يطيق أن يحط ولو طائر على جناحها، ولا يتحمل مزاحنا، كانت تلك طريقتنا في لفت نظره وتحذيره، فولعه بالسيارة كان فيه شيء من البهيمية أو الحَيْوَنَة، وكنا ندرك ميله إلى المباهاة والخيلاء. أما الحداد عليه فكان مفعماً بطعم مرارة الشعور بالذنب لما جلسنا نستذكر مزاحنا معه وسخريتنا منه. فأنا لم أستطع أن أتخلص من هاجس تسببنا في جلب النحس على حياته لأن حديثنا عن الصندوق هو كناية عن السيارة التي كانت على نحو مؤكد تنذر بالموت. عذراً، ياسين، عذراً يا عظيم. والنهاية، جاء سفيان، وأول ما دخَّن أول سيجارة تغلغلت في رأسه فكرة الهجرة مهما كان الأمر، طال العمر أم قصر، وإلى أبعد مكان في أقاصي الأرض، وكنت لما أحاول أن أعلمه بعض الحكمة يرد عليّ بصياح يصم الآذان : "أولى للإنسان أن يموت في أي مكان آخر من أن يعيش هنا!" وكنت أرد بالحدّة نفسها: "إذا لم تستطع أن تعيش في دارك فلم الانتقال للموت عند جارك؟" كانت تلك حُجّتي، وكل ما كانت لي فيه حيلة. كنت أريد أن أُفْهِمه بأن الموت ليس بالمهمة المستعصية بل المشكلة تتلخص في العيش، أما المكان فمسألة ثانوية. ولكنه لم يكن له تفكير آخر إلا في ذلك الموضوع، ولم يكن له انشغال آخر إلا البحث عن المسالك وتدبير شؤون الوثائق ودراسة أساليب وخطط القدامى من الذين قفزوا القفزة الأولى وكللت كل محاولاتهم بالفشل الذريع. فلم يكن يتكلم إلا نادراً ولا يأكل إلا قليلاً، وما إن يرجع إلى البيت حتى يشرع في اجترار غيظه وحنقه، ثم طق، حدث المفصال. وذات صباح ومع انبلاج الصبح، غاب عن البيت، وسلك طريق الغرب، أخطر الطرق على الإطلاق، وهران فالحدود فالمغرب ثم إسبانيا، وأخيراً فرنسا أو انجلترا أو أي بلد آخر، ذلك كل ما في البرنامج. وعلمتُ بالأمر في مساء ذلك اليوم، في وقت متأخر، على لسان أحد الرعايا، وهو نفسه مرشح للانتحار، عثرتُ عليه في أحد الاجتماعات السرية والتعزيمية بعدما فتشتُ ثنايا الحي كله كالمجنونة. كانوا كُثراً، جيشاً بكامله، وقد نال منهم النواح والنحيب؛ وجدتُهم يحلمون وهم يقظى، يقنع بعضهم بعضاً أن العالم في انتظارهم هناك فاتحاً لهم ذراعيه وفي يده الورود، وأن هجرتهم ستقضي لا محالة على عرش الطاغية. باختصار، كانوا يعانون ما يشبه الحمّى، ثم هبّوا جميعاً يحيطون بي من كل جانب كأخت كبيرة لهم أثكلها مصاب جلل، وأسرّوا إليّ أن سفيان سلك طريق الحرا؟ة، الرجال الذي يحرقون الطرق. كنت أعرف العبارة، فهي أشهر عبارة تتداولها الألسن في البلد ولكني كنت أسمعها للمرة الأولى تخرج من فم مجنون حقيقي وكان ذلك يجمد الدم في عروقي. كانوا يتكلمون عن الموضوع بحماسة واندفاع، حرق الطريق كان معجزة لا يقوى على تحقيقها إلا هم. وكان يكفيني أنا الشرف وعليهم هم تحدي اقتفاء أثر طريقه قبل أن يعلق عليه الغبار، إذ ماذا في وسعي أن أقول لمثل هؤلاء الأوغاد، نظرت إليهم كما يُنْظر إلى المفترين الكذابين ثم ولّيت مدبرة. كان ينبغي لي أن أبلغ عنهم الشرطة لو لم تكن هي نفسها سبب العُتْه الذي أصابهم، فهي دوماً في مطاردتهم واستجوابهم واجتساسهم والبصق على وجوههم والهيمنة عليهم. لن يرجع أحد سالماً إن هو سلك طريق الحرا؟ة، فهي تقهقر يتلوه آخر أصعب وأمرّ وأتعس إلى غاية الاختفاء نهائياً. وأصبحنا نشاهد القنوات الفضائية وهي تنقل إلى البلد صور جثث الحرا؟ة وقد جنحت إلى صخور الشطآن بعدما تقاذفتها الأمواج ميلاً بعد ميل، وقد تجمدت أوصالها واختنقت فيها الأنفاس، أو سحقتها عجلات هبوط الطائرات أو أنبار السفن أو صناديق الشاحنات الكبيرة المختومة بالرصاص. وكما لو كنا نجهل الكثير من الأشياء جاء الحرا؟ة في الأخير ليخترعوا لنا طرقاً جديدة في الموت. أما من نجح من الحرا؟ة في العبور إلى الضفة الأخرى فإنه سرعان ما يفقد روحه في أحلك ملكوت وألعن مملكة موجودة على سطح الأرض، وهي الانخراط في الحياة السرية، فما هي تلك الحياة تلك التي يحياها المرء في غياهب السرية؟