كتاب " حرافة " ، تأليف بوعلام صنصال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
إلى القارئ
قراءة كتاب حرافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

حرافة
إن ما يدعو إلى الحيرة هو الخجل الذي يلازمني حيثما حللتُ ورحلتُ، وأخجل من أنّ الناس لا يخجلون بسبب عاهاتهم كما أخجل أنا من عاهاتي. عاهاتهم ظاهرة على وجوههم إلى درجة تنسينا أن نلاحظ أن لهم أنوفاً. لهذا يجب أن أذهب إلى الطبيب النفساني وأطرح عليه الموضوع.
أشعر أن اليوم سيكون طويلاً، وعليّ أن أزور الأطفال، وهم يعرفون الكوميديا ويدركون أنها ليست مرادفة للنفاق.
إن رأسي يغلي ويفور، العرق يغمرني، ولكن ما هو أخطر هو أني أشعر بشيء ما يتحرك في أحشائي. هل أنا حامل؟ ممّن؟ وأنّى لي هذا؟ هل هو الروح القدس؟ أم واحد من كوكب خارج الأرض؟ وتملكتني الأفكار السوداء، وبدأت أحس فعلاً أنني سأقتل أحداً لأن أعصابي توترت.
أين ذهبت المغتربة؟ إنها لا تدري أين تذهب، والجزائر لن تتأخر في استدراجها إلى جنونها، وهلاكها هذه المرة لن يكون بعده هلاك. إن الجميع يتصايحون على البنات وما أدراك ما البنات، وكل يوم يزداد الصياح وترتفع الجلبة. وأول سائق عربة قديمة سيأخذها إلى مختلاه، إذ إنَّ الرعاديد لهم طريقتهم الخاصة في السبي حيث يُصاب المرء بسببها بالغثيان، وهي بكل بساطة: "تركبين أو أدهسك!" إنها مجرد طفلة، غريبة الديار، سائحة، ولا يساورها الشك في أدنى شيء، وترتبط بأي شخص بكل سهولة. وما أدراها في وهران بمكائد الجزائر العاصمة؟ هناك، كل يغني بؤسه، مع الرّاي ويا رايي، أما هنا فالرهان إما على الخالص وإما على الضعف. وهل ما في مشيتها وتسريحة شعرها، وابتسامتها كالغادة غير القابلة للتهذيب والإصلاح، وعطرها، وربطة عنقها الغريبة ما يوحي بأن فيها من علامات حسن الخلق الإسلامي؟ تبّاً لها، لا ينبغي لها أن تحاول القيام بدور نجمة سينما صغيرة لمّا يكون الدين في حالة ثورة!
أمضيتُ النهار كله وأنا أتظاهر بالعمل. كنت أقوم بتعذيب ذاتي وفكري، وتصورتُ حدوث ما لا تحمد عقباه، وذلك ما كان محتملاً حدوثه أكثر من أي شيء آخر. وكنت أتمنى ألا أكون قد سمّمت أي طفل أثناء العمل، فهم شاردو الذهن دوماً ويمكن أن يبتلعوا كل ما يعطى لهم. كنت أستشيط غيظاً وأجول بفكري في شوارع العاصمة متخلية عن الأماكن التي فكرت بارتيادها لو كنت ألبس الطماق العالي المتصل بالساق الذي كانت تلبسه شريفة، إذ لا جدوى في استذكار المواضع التي اعتدنا ارتيادها في أيام شبابنا، فتلك حكاية منسية. ماذا بقي من مكان فيه جاذبية؟ حي البريد المركزي بجموعه الحاشدة الهائمة على وجهها وبقاعات الشاي المنغلقة التي كانت شراكاً حقيقية لاصطياد البنات، بقي محل آخر فيه جاذبية، إنه مقام الشهيد بمحالّه التي تملّى بالنظر إليها طوال النهار وبحدائقه المعلقة؛ كان المقام محج أبناء الذوات الذين كانوا يُسْتتبعون بصغار الحسّاد ومتسكعي ضواحي العاصمة. وفي مثل هذه المسائل، تكون الخطورة في الموكب وليس في العروسة، ولم يبق إلا نادي الصنوبر الشهير الذي بني على الأرض السابقة للمزرعة لأغنى معمّر عرفه التاريخ، لوسيان بورجو، حيث صار يقيم بارونات النظام ضمن اختلاط جهنمي وتحت حراسة مشددة، وما يحدث بداخله خليق بأن يستنفر شرطة العالم قاطبة، أما بالنسبة للطائشات الصغيرات فهو ضيعة المشاهير وهن مستعدات للارتماء في أحضانه مغمضات العيون؛ إن التعاسة تحدق بهن من كل جانب وهن لا يفكرن إلا في السهرات والحفلات والمفاجآت. أما الفنادق الكبرى فلقد استحوذت عليها المحترفات اللاتي نصّبتهن فيها المنظمة، ولكن شريفة في هيئتها الشامخة يمكن أن يُنْظر إليها على أنها فتاة طاهرة لا يشق لها غبار. أما الشيوخ المتربصون على مقاعدهم الوطيئة فإنهم مستعدون لدفع الغالي والنفيس فقط من أجل عضة واحدة لروم أذنها؛ إن لهم طريقة في الابتسام للفتيات الجميلات والفتيان الملحاء كفيلة بتنويم الحية ذات الأجراس. إن جنس الغواني يجعل هؤلاء الخنازير يحمحمون، إني أكرههم!
"يا لامية! يا هذه، انتظري!"
هذا الصوت ليس غريباً عني، إنه، هو، مراد، أحد الزملاء، وهو الفتى الغريب الأطوار في المصلحة الذي يعمل في قسم مرضى السرطان ولعل ذلك أثّر عليه إلى حد ما. إنه الوحيد الذي لا يفكر في الهجرة، ليس لقلة الكفاءة أو الشجاعة بل لأنه فقد القدرة على ذلك. إنني استلطفه. وفي مرة من المرات حاول أن يستغويني ثم سرعان ما عدل عن الموضوع نهائياً. إن المسكين مدمن على تناول الكحول ومن النوع الشديد، فهو يحتسي الأقداح كالشاحنات في محطة الوقود، ومع ذلك يظل شخصاً مرهف الإحساس وصاحب ذوق. إن له قدح الفلسفة، وهو لا يقوى على إيذاء بعوضة، يا له من تعيس، فلا امرأة واحدة ترغب في الارتباط به، وها هو يكاد يوشك على إتلاف كبده من كثرة احتساء الخمر. في البداية، كنت أعتقد أنه يشرب الخمر بإسراف لتحسين صورة الشخص المتقزز والضجران فيه. ولم يكن يتقاعس في تحذير الشباب من مغبة الإدمان وينفجر ضاحكاً في وجه كل متملق دنيء. وهكذا تطور مع مرور الزمن وصار يتحدى كل الحواجز ولا يكلّ عن تشجيع كل فتى طموح على بذل كل ما يستطيع من جهد في سبيل النجاح. أتى إليّ مخاتلاً بعدما استلمتُ الوظيفة من مدير المستشفى بنزوة منه حيث كلفني بمباشرة مهامي على الفور، وقال لي بعدما تفحصني ملياً من قمة رأسي إلى أخمص قدمي وكأنه جهاز سكانير، وخبر معدني: "اسمعي يا صبية، أنت جميلة ومليحة، ولكن سأكلمك في ذلك في وقت لاحق. عليك في الوقت الحاضر أن تحترسي وتنظري حيث تضعين قدميك. إنك في ساحة الحرب، وهذا المستشفى مزروع بالألغام من أعلاه إلى أدناه. إذا كنت في حاجة إلى النصح فتعالي إليَّ خلسة وبعيداً عن الأنظار. والآن عليك أن تتأملي نصيحتي هذه التي أسديها لك: لا تبالغي في الاندفاع ولا تركني إلى الخمول.
وذهب في حال سبيله واضعاً يديه في جيبيه. لقد كان مثيراً للضحك حقاً. إن الرجال كلهم أخسّاء، فكلما حاولت المرأة أن تتقن عملها رأوا فيها إما الاندفاع وإما التكاسل.
كاشفته بأفكاري، حدّثته عن شريفة وعن نزواتها وهروبها من البيت، وعن البلبلة التي كنت فيها وخجلي من نفسي. فَهِم المسألة بسرعة، فهناك الوقائع التي نراها في تسلسلها المنطقي ولكن هناك العواطف الدفينة والمكبوتة في أعماق النفس. وبصراحة، كنت أخشى حدوث ما لا تحمد عقباه. وقبل أن يرد عليّ ظل مطبقاً يمط شفتيه ثم أوجز أفكاره: